“في الوقت الذي يستيقظ فيه الناس صباحا ليستنشقوا هواء نظيفا، يفتحون أعينهم على الخضرة، يسمعون زقزقة العصافير الشادية، ويعانقون زرقة السماء، تستقبلني أنا وأهالي صفاقس روائح الفضلات ولا أرى من الألوان غير خضرة العفن ولا أعرف من الأصوات غير صوت الكلاب والقطط التي تتنازع على أكوام الزبالة المتكدسة أمام بيوتنا وعلى قلوبنا… أرفع رأسي إلى السّماء لعلّ زرقتها تخفّف مُصابي فإذ بصفعة تباغتني على وجهي… من غيري؟ أنا من صفعت وجهي بعد أن استقرّت بعوضة على جلدي… هي الأخرى تريد أن تختبر دمي وصبري…”
لا تجد هيفاء عبيد، معلمة تقطن في صفاقس المدينة، غير السخرية السوداء للتعبير عن معاناتها. هي، وسائر أهالي صفاقس، لم يعودوا قادرين على الشكوى. فالشكوى لغير الله مذلّة، والسلطات لا تريد للسكّان أن يُذلّوا.
صفاقس، ثاني أكبر المدن التونسية من حيث المساحة وعدد السكّان. يحلو للتونسيين.ات وصفها بـ”عاصمة الجنوب”. هي اليوم تقف على شفا كارثة بيئية وصحية.
دام سفرنا إليها من العاصمة ثلاث ساعات. قضيناها في تصفّح الصور المنشورة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. لم تعد صفاقس تشبه صفاقس.
النفايات تحقّق العدالة الاجتماعية!
تقول الأغنية الشهيرة: “يا قادم لينا ما تفارق تونسنا البيّة، إلاّ ما تجينا وتذوق مريقة صفاقسية…” لم يبالغ الجموسي في كلماته، فلطالما اشتهرت المدينة بأطباقها المميّزة وعلى رأسها “المرق بالسمك الصفاقسي”.
يرتبط اسم صفاقس أيضا في الذهنية الشعبية التونسية بالانضباط وتقديس العلم والعمل. لكن لم يخطر ببال الصفاقسيين والصفاقسيات أن تصبح شهرتهم الوطنية مرتبطة بعدم رفع الفضلات في المدينة لمدّة 40 يوما بالتّمام والكمال.
في كلّ مكان من المدينة، تتكدّس أطنان النفايات على أرصفة الشوارع وأمام البيوت والمؤسسات العمومية والخاصّة…في الأحياء الفقيرة والمتوسّطة وحتى الراقية.
“الزّبلة” وحدها حقّقت العدالة الاجتماعية. الجميع سواء أمام التلوّث.
ركبت سيارة أجرة عند وصولي. قمت حال استقراري في المقعد الخلفي بالاتّصال برئيس بلدية صفاقس لتحديد موعد معه. كان سائق التاكسي يتابع باهتمام حديثي، وما إن أنهيت المكالمة، حتى قال: “يا مرحبا… صار انتي صحفية… عليك انتي نلوّج..” ( أنت صحفية يا مرحبا، أنا أبحث عنك.)
واستغرق مباشرة في حديثه عن الموضوع الذي يملأ دنيا المدينة ويشغل ناسها حاليا: ” أنا أقطن حيّا راقيا نوعا ما، لكنّني مع ذلك أعيش نفس المعاناة. كلّ يوم، أفتح عينيّ وأغمضهما على أكوام النفايات… كرهت بيتي وحيّي وعملي أيضا الذي جعلني أجوب شوارع صفاقس الملأى بالفضلات… صارت الزّبلة أكثر من النّاس.”
النفايات هي كلّ مادّة تمّ استعمالها مرّة واحدة أو عدّة مرّات ولم تعد ذات فائدة. وقد تكون موادّا نتجت من عملية معينة سواء كانت بيولوجية كالبراز و البول أو صناعية على غرار نفايات المصانع). وتصبح النفايات مصدر خطر على الصّحة والبيئة في حال عدم التعامل معها بشكل ملائم.
تعود أزمة النفايات ليوم 27 سبتمبر/ أيلول الماضي. توقّف يومها رفع الفضلات في ولاية صفاقس كاملة. حسب رئيس بلدية صفاقس منير اللّومي، فإنّ ذلك يعود إلى غلق مصبّ “قنة” بمعتمدية عقارب من قبل الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات “دون سابق إعلام” إذ لم تكن بلدية صفاقس وسائر البلديات بالولاية على علم مسبق بهذا “القرار المفاجئ وغير المدروس.”
لكنّ زاهر اللّوز المستشار البلدي ببلدية صفاقس لا يوافق رئيسَها الرّأي. يقول إنّه يجب تحمّل المسؤولية وإنّ البلدية كانت على علم بأن المصبّ سيتم غلقه.
يضيف اللّوز أنه قام قبل فترة طويلة بتقديم مشروع متكامل لحلّ مشكلة النفايات في صفاقس، يتمثّل في التعامل مع شركة ألمانية تقوم بتوفير آلة تحوّل النفايات إلى طاقة كهربائية، لكن لم يتمّ أخذ مشروعه بعين الاعتبار.
النفايات تسرق من الأطفال بهجة اللّعب
بجانب المستشفى الجهوي بصفاقس وأمام محضنة للأطفال تتكدّس عشرات أكياس النفايات على طول أكثر من 10 أمتار.
ضاقت مديرة المحضنة نائلة والي ذرعا بالنفايات التي أصبحت تهدّد مصدر رزقها الوحيد. صارت تتلقّى يوميّا عددا كبيرا من شكاوى الأولياء المتخوفين على صحّة أبنائهم.
“ليس باليد حيلة”، تقول المديرة في سخط، “اتّصلت بالمسؤولين والإعلام لكن ما من مجيب. أتمنى لو كنت قادرة على حمل المحضنة ونقلها بعيدا…”
مع الفضلات يأتي الذّباب والبعوض دائما. ضيفان ثقيلان مزعجان أحاطا بالمحضنة وحرما الأطفال من ساعات لعبهم المعتادة في الحديقة… وهل تتحمّل تلك الأجساد الصّغيرة بعوض القمامة المتعطّش للدّم؟
تعرف رحمة بوجلبان الجواب جيّدا. فكلّ يوم، ترى على جسد طفلتها الصغيرة آثار لسعات البعوض. تعيش الأمّ ممزّقة بين عملها كأستاذة جامعية في قفصة وبين قلقها على طفلتها المرسّمة بالمحضنة المتضرّرة في صفاقس. قلق على صحّة ابنتها دفعها في آخر الأمر إلى اتّخاذ قرار إبقاء الطفلة في البيت.
“من يعلم ممّ تتكوّن الفضلات وما المرض الذي يمكن أن تنقله لابنتي؟ أشعر أنني وضعت طفلتي في مصبّ فضلات… وهذه ليست فضلات عادية، إنها فضلات مستشفى.”
رائحة الموت القادم من رماد النفايات
في منطقة العوابد، التي تبعد أكثر من 10 كم عن مركز المدينة وتعتبر من المناطق المهمّشة في صفاقس، وبينما كنت ألتقط بعض الصور للنفايات، استوقفني شابّ عشريني نحيل يرتدي ثيابا بالية. قال لي بنبرة حزينة: “نكاد نختنق من رائحة الفضلات. أمّي تعاني من ضيق التنفّس، وروائح الفضلات وحرقها تكاد تفتك بنا… الأمر أصبح لا يطاق.”
ليس سكّان منطقة العوابد الوحيدين الّذين يلجؤون إلى حرق النفايات بعد تكدّسها. ففي منطقة منزل شاكر التي لا تبعد عن مركز المدينة بضعة كيلومترات فقط، وجه آخر من وجوه صفاقس الغارقة في فضلاتها.
كان في انتظاري، لسعد بوعزيز الناشط في المجتمع المدني. جاء ليأخذني في جولة عبر نفايات المنطقة. “الجميع متضرّرون هنا. صاحب المقهى والمطعم والمغازة، الكبار والصغار، النساء والرجال، المرضى والأصحاّء…”
كان لسعد يتحدّث فيما تشير يده إلى فضلات محترقة بجانب مستوصف محلّي. يقول إنّ الحريق طال عمود كهرباء و”لولا ستر الله لحدثت مصيبة كبرى..”
وثّقت عديد الدراسات العلمية مخاطر الانبعاثات من المحارق في الهواء الطلق على صحّة الإنسان. منها التعرّض إلى جزيئات دقيقة، الديوكسين، المركّبات العضوية المتطايرة، ومركبات كل من الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات وثنائي الفينيل متعدد الكلور. وهي جميعا مرتبطة بأمراض القلب والسرطان وأمراض الجلد والربو وأمراض تنفسية.
وفق تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش فإنّ المتساكنين بجانب أماكن الحرق المكشوفة يعانون من مشاكل صحية تتوافق مع التنشق المطوّل والمتكرر لدخان محارق النفايات. منها، مرض الانسداد الرئوي المزمن، السعال، التهابات الحلق، أمراض جلدية، والربو.
تونس مطالبة بالالتزام بواجباتها تجاه القانون الدولي لحقوق الإنسان، فهي دولة عضو في “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، الذي يتطلب اتخاذ خطوات لتحقيق حق الإنسان “في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه”.
البحر أيضا أخذ نصيبه من النفايات
عقدت بلدية صفاقس مجلسا بلديا استثنائيا يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2021، قرّرت فيه إحداث مصبّ مؤقّت في الميناء. أصبحت بذلك البلدية الوحيدة في الولاية التي وجدت “حلاّ” وإن إلى حين.
يشرح رئيس البلدية منير اللّومي: “قمنا بإحداث مسطّح في الميناء يقوم بعملية العزل فنّيا أي عزل الفضلات عن المائدة المائية والبحر… اتخاذ قرار مركز تجميع الميناء كان بإجماع الحاضرين وراسلت الوزارة التي وافقت على هذا المصبّ.”
أما المجتمع المدني المحلّي فله رأي آخر فيما يتعلق بهذا الحل المؤقّت. نظّمت تنسيقية البيئة والتنمية عدّة وقفات احتجاجية بالخصوص. يعتبر شفيق العيادي، عضو في التنسيقية، أن بعض القرارات، ومنها نقلّ المصبّ إلى الميناء، زادت من تعميق الأزمة.
يقول “تدخل الاتحاد الأوروبي ومنع استيراد غلال البحر من صفاقس إلى حين إغلاق المصبّ، ممّا يعني أنّ التأثيرات السلبية لا تطال فقط البحر والبيئة لكنها تؤثر أيضا على الاقتصاد…”
يحمّل العيّادي البلديات كما الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات المسؤولية عن الكارثة البيئية. وقد رفعت التنسيقية قضية مستعجلة في هذا الصّدد لـ”إيجاد حلول عاجلة ونقل المصبّ من الميناء…”
حاولت “إنسان” الاتّصال بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، دون الحصول على ردّ.
شوارع خالية من النفايات… صار الحلم!
تشترك نهى الحمزاوي، ممثلة مسرحية هاوية، مع هيفاء في اللّجوء إلى السخرية تنفيسا عن وجعها لما ألمّ بمدينتها. تقول إنّها كلّما حاولت تذكّر ملامح صفاقس قبل “غزو النفايات” تخونها ذاكرتها ولا تجد لها صورة واضحة… طالت المدّة لدرجة نسيت معها نهى صفاقس قبل هذا “الغزو” وصارت تشعر أن “الزّبلة هي جزء من صفاقس ومن جماليتها”.
كانت الفضلات تحيط بنهى من كل جانب فعلا، في الطريق الّذي وقفنا نتحدّث فيه معا والذي تمرّ منه يوميّا. فهو لا يبعد عن منزل عائلتها سوى بضعة أمتار…. تكدّست هنا الفضلات المنزلية وفاحت الروائح المنفرة…40 يوما لم ترفع فيها القمامة، هذا ما يشهد به السكان وما تشهد به الشجرة المسكينة التي علقت بأغصانها الأكياس البلاستيكية.
طال وقوفنا في المكان. وجعل استرجاع نهى لمعاناتها اليومية مع التلوّث في حيّها يفقدها شيئا فشيئا لجوءَها إلى السخرية. تحوّل التهكّم إلى غضب: “حقّا لقد كرهنا الحياة في هذا المكان. فضلات هنا، وأخرى هناك محترقة. والروائح… نحن نحتضر.”
غدت نهى الحمزاوي عاجزة عن الابتسام في وجه الحياة والناس في مدينة صارت مرتعا للفضلات وما يرافقها من بعوض وذباب وحتى خنازير برّية.
وبعد أن كان أهالي صفاقس يحلمون بالتنمية ومدينة رياضية وشبكة خطوط المترو الخفيف، أصبح سقف أحلامهم أن تخلو شوارعهم من النفايات.
تنويه
أنجز هذا الريبورتاج ضمن النسخة الثانية من برنامج "مراسلون"، مراسلو الديمقراطية المحلّية، من تنظيم المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية (IFES) وسفارة المملكة المتّحدة بتونس