الدولة التي تفرض وجودنا في البلدية أو مجلس النواب أو في المؤسسات ونحن لا نستطيع مجرد التنقل إليها، هي دولة تجرح كرامتنا وتهيننا، دولة تتعمد أن تضعنا في مواقف وأماكن صنع قرار لتشعرنا بالنقص… حين نذهب لأي مكان ونجد سلّما لا نستطيع أن نصعده هذا يذكّرنا أننا لسنا من ذوي الإعاقة فقط بل بأنه محكوم علينا ألاّ نصعد في سلّم الأحلام والحياة…
نور مقديش، شابّة ذات إعاقة حركية، متحصلة على الأستاذية في اللغة الإنجليزية وتعمل حاليا كمقتصدة إدارية في الاتحاد التونسي لإعانة الأشخاص القاصرين ذهنيا فرع قرقنة.
حين بلغنا مقرّ عملها الواقع بعمادة الكلابين كان الاستقبال حارّا. وكانت الجمعية التي تجمع كل أطفال الجزيرة من ذوي الإعاقة مليئة بالحركة والنشاط. صادف قدومنا يوما ترفيهيا على ما يبدو.
استقبلتنا نور في مكتبها الذي يطغى على ألوانه اللّون الورديّ. لون يشبهها ويشبه نظرتها الوردية للعالم رغم الخيبات…
تحبّ الشابّة أن تكون فاعلة ومؤثّرة. ألاّ يكون مرورها في الوجود مرورا باهتا لا يترك شيئا من النور في حياة الآخرين. ومن هنا جاء إيمان نور بالتغيير من خلال العمل البلدي.
يشمل مصطلح ”الأشخاص ذوي الإعاقة“ كلّ من يعانون.ين من عاهات طويلة الأجل بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسّيَة، قد تمنعهم.نّ لدى التعامل مع مختلف الحواجز من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين.أخريات.
وينصّ الدستور التونسي من جهته على أنّه “تحمي الدولة الأشخاص ذوي الإعاقة من كل تمييز .لكلّ مواطن ذي إعاقة الحق في الانتفاع، حسب طبيعة إعاقته، بكل التدابير التي تضمن له الاٍندماج الكامل في المجتمع، وعلى الدولة اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لتحقيق ذلك”.
في الأثناء، ما تزال غالبية الإدارات والمرافق العمومية قاصرة عن توفير بيئة صديقة لذوي الإعاقة.
تمييز انطلق منذ الحملة الانتخابية
ترشحت نور للانتخابات البلدية. لم يكن ذلك سهلا، لكنّها نجحت في كسب ثقة الكثير من المواطنين. لتنال منصب المساعدة الأولى لرئيس البلدية.
مع ذلك لا يمكن أن تنسى الشابة بعض المواقف التي واجهتها مع المواطنين الذين لم يؤمنوا بها خلال الحملة الانتخابية.
تسترجع نور أحد المواقف الموجعة دون أن تفارق البسمة محيّاها طيلة لقائنا بها: ” مواطن قالي تو بلاهي في كرسي وظروفك الصحية ومترشحة ما عندك وين توصل” (قال لي مواطن، بالله عليك، أنت على كرسي متحرّك وظروفك الصحية لا تسمح وتترشّحين للانتخابات، لن تصلي إلى شيء!)
أجابته نور يومها: “مادام عقلي يعمل فسأصل. الفرق الوحيد بيننا أنّك تمشي على اثنين وأنا على أربعة.”
تريد المسؤولة البلدية الشابّة أن تبدو دائما قوية أمام الآخرين. وهي كذلك بالفعل. لكن هذا لم ينجح في منع السؤال من التردّد في ذهنها: “كم من شخص نظر لها نفس نظرة ذلك الرجل وردّد نفس الكلام، لكن في سرّه؟ “
لن تعرف نور جواب هذا السؤال على الإطلاق. لكنها تعرف أنّ آخرين تجاوزوا الجرأة إلى الوقاحة في التعاطي مع إعاقتها.
كان ذلك خلال الحملة الانتخابية نفسها. تذكر نور كيف نصحها أحد المواطنين بأن تنسى أمر البلديات. أخبرها أنّ “الأمر صعب عليك وستتعبين كثيرا”. اعتقدت الشابّة أنه يقصد صغر سنّها، فأجابته ببراءة “صحيح أنا صغيرة في السنّ، لكنّني قادرة أن أغيّر الكثير.” ابتسم الرجل حينذاك ساخرا وأجابها فيما يشير إلى كرسيّها المتحرك: “الأمر لا يتعلّق بسنك، الشباب قادرون على فعل الكثير وهم بالفعل يغيرون، لكن أنا أتحدث عن كرسيّك.”
تفاجأت نور وتطلّب الأمر منها بعض الثواني لاستيعاب ما سمعته. لكنّها سرعان ما استجمعت قوّتها المعتادة لتجيب بعزيمة لا تنثني: “أنا قادرة… قادرة على أن أمسك بزمام دولة وليس بلدية فقط.”
مجتمع مُعيق
كانت نور تحمل كل يوم أحلامها الكبيرة وهي في الطريق إلى عملها في البلدية. لتعود إلى البيت بخيبات أكبر. كلّ يوم.
لم يتوقف الأمر عند المواطنين. ليست البنية التحتية للبلدية نفسها مؤهّلة لاستقبال ذوي الإعاقة. “أردت أن أفرض نفسي بعملي لا لأن القانون يفرض وجود شخص من ذوي الاعاقة في البلدية. أنا انسانة فاعلة ولست باقة ورد تزين بها الطاولة.”
كانت نور المساعدة الأولى لرئيس البلدية ولم “تنل من المنصب إلاّ اسمه”. اقتصر كلّ عملها على الاستماع إلى المواطنين، ولم تؤخذ أيّ من اقتراحاتها بعين الاعتبار. كانت عاجزة عن التنقل وعن الدخول إلى الإدارات ومقابلة المسؤولين والقيام بمسؤولياتها. “أنا متصالحة معه وليس هو ما يعيقني…” تقول نور فيما هي تمرّر يدها على كرسيّها المتحرّك. “المجتمع هو ذو الإعاقة الفعلي والظروف هي المعيقة الحقيقية.” تقول بأسف.
على طول الجدار خلفها، كانت ميداليات عديدة معلّقة بفخر. فنور هي أيضا بطلة وطنية في رياضة البوتشيا. تقول بحسرة بينما تسترجع ذكريات سفرها إلى إسبانيا ضمن نشاطها الرياضي: “هناك كان الأمر مختلفا. نسيت كلّيا وجود الكرسيّ المتحرّك. كنت إنسانة مستقلّة. وتمكنت من الدخول إلى جميع الأماكن بكل سهولة على عكس تونس التي أشعر فيها بعبء الكرسي كلما تعذّر عليّ الدخول إلى مكان ما. وما أكثر الأماكن التي تشعرني بهذا العبء.”
ترفض نور ما تسميه بـ”المساعدات المهينة”، ولا تقبل أن يحملها أحد بين ذراعيه صعودا إلى طابق ما. تقول إنّها ترشّحت في الانتخابات البلدية لتكون امرأة فاعلة ومستقلّة، لا امرأة تحتاج إلى مساعدة لحملها.
“كنا نقوم بالجلسات في قاعة العقود في الطابق الأرضي وصادف توقيت الجلسة عقد قران وعوض أن يقوموا بتأخير الجلسة نصف ساعة حتى أتمكن من الحضور قرروا القيام بها في الطابق الأول واقترح أحدهم أن يحملني وهذا ما لا أرضاه لنفسي ولا لكرامتي فغادرت مكسورة.” تسترجع المسؤولة البلدية بمرارة هذا الموقف أيضا.
كلّ تلك المواقف والعقبات وغيرها تظافرت لتجعل نور تقرّر بعد تفكير طويل أن تستقيل. واستقالت فعلا يوم 27 جوان 2020 بعد سنتين بالضبط من التحاقها بالعمل البلدي.
يعتبر رئيس بلدية قرقنة المنصف الفقير من جهته أنهم “فعلوا كلّ ما بوسعهم” لتوفير الظروف الملائمة لحسن سير عمل نور إلا أن نوعية الإعاقات تختلف من شخص إلى شخص وتجعل ظروف بعضهم أصعب من آخرين. مضيفا أنّ هناك أمورُُ تتجاوزهم وتتعلّق بالميزانية المتواضعة للبلدية والتي لا تسمح بإحداث مصعد في البلدية. “كل الظروف في البلاد تصعّب حياة الأشخاص ذوي الإعاقة”، حسب تعبيره.
غير أنّ رئيس البلدية يستشهد بمستشار بلدي آخر قال عنه إنّه لم يواجه أيّة مشاكل في تأدية مهامّه، طالبا منّا الاتّصال به. أخبرنا رئيس لجنة النقل في البلدية الصادق كمّون، وهو من ذي الإعاقة الحركية، أنّ صوته مسموع وأن الإعاقة لم تشكّل أي عائق أمام أداء مهامّه. “أنا سعيد بخدمة جزيرتي رغم تواضع الامكانيات.” يقول الصادق.
بعيدا عن الحظّ السعيد للصادق، وفي ظلّ غياب إحصائية واحدة حول عدد ذوي الإعاقة الذين تعرضوا للتمييز أو الانتهاك داخل البلديات، وثّقت “إنسان” تعرّض ستّة مستشارين بلديين آخرين إلى صعوبات مشابهة لما عايشته نور في عدد من بلديات صفاقس. إلا أنّهم فضلوا عدم الإفصاح عن هوياتهم والمعاناة في صمت.
“يتعرّض ذوو الإعاقة إلى العنف الرمزي كما يواجه المستشارون البلديون نظرة دونية من قبل زملائهم ومن المواطنين، حيث ينظر لهم لا كمستشارين بلديين بل كأشخاص عاجزين”، يقول رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن الأشخاص ذوي الإعاقة يسري مزاطي. ويضيف: “مع ذلك نحن سعيدون بالقانون الذي يفرض وجودهم في القائمات. في هذه المرحلة ما هو مهمّ هو التموقع السياسي والعقلية ستتغير شيئا فشيئا.”
يستطرد مزاطي بالقول “ويجدر بالذكر أن التمييز والعنف المسلّطين على النساء من ذوات الإعاقة أكثر من العنف المسلّط على الرجال من ذوي الإعاقة.”
أمر تؤكّده نائبة رئيسة رابطة الناخبات التونسيات تراكي الشابي التي تشدّد على أن وضعيات النساء من ذوات الإعاقة أكثر هشاشة من الرجال، حيث أنهن يتعرضن إلى التمييز على أساس النوع الاجتماعي ويتم إقصاؤهنّ من الاجتماعات وصنع القرار.
هجرت نور إذن عملا بلديا لم يمكّنها من تحقيق ذاتها ولا هو نجح في إدماجها. قصّة، لا ريب تتكرّر في إدارات ومواقع كثيرة أخرى، تؤكّد أن الانتخابات وحدها لا تكفي. وأنّ الدساتير وحدها لا تصنع ربيع ذوات الإعاقة وذويها.
تنويه
أنجز هذا التقرير ضمن النسخة الثانية من برنامج "مراسلون"، مراسلو الديمقراطية المحلّية، من تنظيم المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية (IFES) وسفارة المملكة المتّحدة بتونس.