إنّه صقيع الغربة. لقد خبرتُ هذا النوع من البرد جيدا. فمنذ قدومي إلى سويسرا في هجرة قسرية قبل أزيد من خمس سنوات، عايشت شتاءات شتّى، حتى لكأن فصول الصيف والربيع سقطت سهوا في هذه البلاد.
أعرف أنه ما من دفايات منزلية أو ملابس صوفية تقوى على إسكات صرير الريح في الأعماق، لكن شمّ رائحة تربة بلدي اليمن وقد تنظّفت من الدماء وهواها وقد تنقّى من البارود، سيفعل بي الأعاجيب.
ربما هذا حلم قد لا يتحقق قريبا قياسا بهدير آلة الحرب ولؤم أطرافها، غير أن باب الأمل يبقى مُواربا دوما أمام الكائنات المعلّقة في حبل الاشتياق.
اشتقت لـ”أمي اليمن” التي تسامرني الآن على هيئة أغنية بصوت أبوبكر سالم بلفقيه. اشتقت لكفّ أمي تهدهد رأسي المتعب من جنون الأيام، ولِدعاء أبي يسافر قَبلي إلى كل خير. اشتقت لأخواني وأخواتي عندما نوقف الزمن ونستدير على مائدة من ضحك أو من طبخ أمّي في أماسيّ الأعياد.
مطلع سبتمبر/ أيلول 2014 شهد أخر قبلة طبعتها على جبين أمّي زهرة حين غادرت شقتي بصنعاء باتجاه مدينتنا إب. كان ذلك بعد رحلة علاجية ناجحة لها إلى العاصمة، والتي كانت قبل أشهر قد خضعت فيها أيضا للعلاج الكيماوي والإشعاعي بعد إصابتها بمرض خبيث، أجاركم الله وأحبّاءكم منه.
أكثر ما يؤلمني الآن أنني لست في صنعاء أرعى أمي “زهرة الكون” حين تعود لعمل الفحوصات والكشوفات الطبية المعتادة بعد تعافيها. فليس لنا بصنعاء التي تحوّلت إلى غابة أي أقارب. مثلما لم يعد لليمنيين جميعا أي سند فعليّ في أي مكان.
لقد تُركوا يواجهون أقدارهم التعيسة بمفردهم، بينما الآلاف مثلي توزّعوا مجبرين في أصقاع الأرض.
يختلف البلد والمكان لكن معاناة المشرّدين اليمنيين واحدة. قد تكون معاناة من في الداخل مضاعفة لكن الذين فرّوا إلى بلدان جارة وشقيقة وأخرى بعيدة قد لا يكونون أفضل حالا.
لم يكتمل الشهر الذي ودّعت فيه أمّي حتى اقتحمت جماعة الحوثي العاصمة صنعاء وسيطرت عليها بقوة السّلاح. ثم توالت الأحداث ليتدخّل في أواخر مارس/ آذار 2015 تحالف عسكري عربي مؤازرا الحكومة الشرعية.
وعندها ابتدأت رحلة الدماء… وانتشر الدّمار والرّعب في صنعاء وعموم اليمن.
من المفارقات أنني في منتصف مارس ذاته كنت قد احتفلت بـ”عقد القران” في صنعاء بينما حدّدت حفلة الزفاف لتكون لاحقا في ماي/ أيار 2015.
كنت واهما أنني أستطيع بفرحي إيقاف جنون الحرب.
لكن، وعلى وقع الغارات الجوية المتوالية على صنعاء، وصلتني رسالة طريفة من أحد الأصدقاء ينشدني العدول عن قرار الزواج قائلا:” ارحم الناس يا صدّام… حين خطْبَتك في 2014 اقتحم الحوثيون عمران (محافظة يمنية)، وحين عَقدت (القِران) بدأت الغارات الجوية، لو تزوجّت أظنّها تقوم حرب عالمية”.
ولئن درست النصيحة فقد تكفّلت الحرب بتنفيذها، إذ أجّلت الحرائق العامّة موعد إطفاء حرائقي الخاصة حتى مارس/ آذار 2019 عندما لحِقتني العَرُوس إلى سويسرا في إطار لمّ شمل أسرة ينتفع به اللاجئون المُعترف بهم.
بعد 9 أشهر بالضبط، ستولد ابنتي “نسمة” والتي تخفّف بسمتها عني الكثير من ضغط الاغتراب.
ما قبل الحرب والغربة كنّا والفرح الدائم أصحابا. كنا نقهقه حتى ونحن في صميم الألم. الآن لا أبالغ إن قلت إنني قد نسيت الضحك.
أعاني من نُدرة الأصدقاء هنا، وهذه أحد أسوإِ أوزار الغربة. فتكوين الصداقات مرهق في بلد جُلّ أبنائه “متجّهمون”. إنهم يعبدون الدقة والجدية، فيما نحبّ نحن الفوضى والهزل.
لا يحبّون تكوين الصداقات فيما بينهم فكيف مع الغرباء. تقول لي زميلة: “أنا سويسرية ومولودة هنا وليس لديّ سوى صديقة واحدة، هذا أمر طبيعي هنا.”
في الحرب التي عايشتُ رُعبها لأشهر بصنعاء كنت أكتب لصحف خارجية. وحين بدأت مضايقة الصحفيين ومُلاحقتهم، وتوالى صوت أمّي يرجوني المغادرة، خرجت ليلا من صنعاء في رحلة شاقة ومبهمة استمرّت لأكثر من أسبوع.
وبعد معاناة وسوء معاملة لي والآلاف في المعبر اليمني السعودي الوحيد شرق البلاد، دخلت السعودية. لكنّني لم أبقى هناك سوى أربعة أشهر.
ففي أواخر ديسمبر/ كانون الأوّل 2015، وجدت نفسي في أحد بيوتات اللجوء في سويسرا. وهناك ابتدأت رحلة معاناة أخرى وما تزال تتوالى فصولها حتى اليوم.
لم أمنح اليمن وأهلي الاشتياق والأسى وحسب، فثمة واجب أخلاقي ووطني يتحتّم عليّ القيام به.
تعلّمت الألمانية، إحدى لغات سويسرا الرسمية. أشارك في فعاليات متنوّعة، مذكّرا بصوت الفئات المطحونة في الداخل. ألتقي صحفيين ووسائل إعلام لتوضيح الصورة المغلوطة عن الحرب في اليمن.
وحتى أثناء عملي كمُرشد في متحف أينشتاين في بيرن، أتحدّث في القسم الشرقي تحديدا عن حضارة هذا البلد (اليمن) وتاريخه وطبيعته وتنوّعه ومستقبله المأمول.
لكن حين أجلس إلى نفسي وأفكّر أنني لن أقوى على زيارة أمّي وأبي قريبا أزداد اضطرابا.
بلد من غير مطارات ولا معابر مفتوحة، حتى التأشيرات للبلدان الجارة والشقيقة باتت ضربا من المستحيل. يا للكارثة والحزن. هذا ما نتميّز به دُونا عن كل مهاجري العالم الذين بوسعهم العودة لبلدانهم متى شاءوا حتى ولو ليوم واحد.
كلّ ما بوسعي حيال الأسى، كما جرت العادة، الانسحاب إلى أقرب جبال الألب في بيرن، العاصمة السويسرية التي أسكنها. أنزع عن كفّيَّ القفازات الجلدية، وأرسم على الثلج بسبّابتي خارطة اليمن فوَجْهَ أمّي وأبي وأحبابي… ثم أجهشُ بالبكاء متدحرجا بأحلامي ودموعي الغزيرة مع كرات الثلج.