اسمي شيماء، مواطنة تونسية ذات 27 عاما. حتّى شهر فيفري الماضي، كنت أمارس حياتي باندفاع الشباب وعفويته… لم يكن يمرّ عليّ يوم دون التنقل إلى إحدى الولايات لممارسة التخييم والرياضة الجبلية، هوايتيّ المفضّلتين.. كانت درّاجتي دائما رفيقة رحلتي وترحالي. فجأة، بدأت أخبار الفيروس تنهال من كلّ حدب وصوب. أقعدني الحدث الجلل البيت. كان هذا الاستثناء الذي يثبت القاعدة…
لا أخفيكم أنني عرفت الخوف بادئ الأمر. وكما فعل الجميع، حرصت على اتّباع كلّ الاحتياطات والتعليمات ولازمت البيت إلاّ للخروج إلى الصيدلية. كنت في تلك الفترة، مواطنة “واعية” و”صالحة” تلتزم بالحجر الصحّي وتستخدم باستمرار في تدويناتها على مواقع التواصل الاجتماعي هاشتاغ #شد_دارك (#stayathome). ورغبة منّي في تسلية أصدقائي وتبديد أجواء الخوف والكآبة جرّاء ملازمتهم بيوتهم، قمت بتخصيص فقرة يومية على حسابي بفايسبوك أنشر فيها صورا من مغامراتي السابقة في ربوع البلاد وأسميتها: شدّ دارك و أنا نسافر بيك..
لكنّ السحر انقلب على السّاحر… ربّما هي صوري القديمة. ربّما كانت الذكريات المنبعثة من تفاصيل الأماكن الساحرة التي زرتها. ربّما هو الجانب المتمرّد في شخصيتي. أو ربّما تلك الأسباب جميعها، وقد امتزجت ببعض من الاكتئاب والروتين القاتل، جعلتني “ما نشدّش داري”. لتبدأ مغامرتي مع خرق الحجر الصحّي… ذلك الّذي أحب تسميته “كورونتينا”.
أتذكّر أوّل خطوة خطوتها خارج البيت. سعيدة كطفلة تخطو خطوتها الأولى. ثمّ أوّل خيوط شمس أراها منسكبة على ضفاف البحر بعد أسبوعين من “الظلام”. كنت قد تسلّلت خفية على الساعة الساّدسة صباحا، أخذت درّاجتي وقصدت شاطئ المنستير القريب. كنت أنا والطريق الطويل والبحر وطيور النورس فقط. لم يكن هناك أحد سوانا. شعرت ليلتها أنني بطلة فيلم يروي قصّة نهاية العالم… أو هكذا فعلت أشعّة الشمس برأسي الصّغير.
كنت أغنّي بصوت عال وأنا أقود درّاجتي. غنّيت وأنا على الشاطئ. ربّما رقصت أيضا؟ لا أذكر… رأسي كانت تدور. أسكرتني نشوة الخروج إلى الضّوء. وصرت أرى جدران البيوت وأعمدة الكهرباء والأشجار والبحر بعين العاشق الوله.
لكنّ دوختي لم تمنعني من التقاط كلّ اللحظات والأشياء والأضواء بعدسة الكاميرا. ففعلت…
تحوّل ذلك التسلّل إلى فعل أكرّره كلّ يوم. جعلت أخرج من البيت كلّ صباح لأتنزّه على الشاطئ بعيدا عن النّاس وعن أعين الرّقيب. وقرّرت مرّة ألاّ أكتفي بالنظر إلى البحر، فارتميت في أحضانه… يومها شعرت أنّني الوحيدة التي تسبح على امتداد الشريط السّاحلي التونسي!
وكما توقّعت وأردت، كان لصوري وقع إيجابي لدى أصدقائي ومتابعيّ الّذين ضاق بهم المكوث في البيت. فجعلوا “يغادرونه” كلّ يوم عبر صوري الخارقة للحجر الصحّي…
ولأنّ كلّ ممنوع مرغوب، تجاوزت مغامراتي الخروج إلى الشاطئ لآخذ في التردّد يوميّا على مقهى اكتشفت أنها تعمل خلسة.
بل، و”تماديت” فقرّرت إقامة عشاء على الشاطئ رفقة أصدقائي! كلّ ذلك في خضمّ حجر صحّي شامل في كامل البلاد. يومها، قرّ رأينا على الخروج في وقت مناسب قبل بداية حظر التجوّل مساء. كنّا ثلاثة أشخاص انتأينا من الشاطئ مكانا غير مكشوف، ووزّعنا على قطعة قماش فرشناها على الرّمال ما لذّ وطاب من الأطباق التي أتينا بها من بيوتنا. وكانت “soirée inoubliable” في زمن الكورونا…
ثم حلّ شهر رمضان ومعه تمّ تأخير موعد انطلاق حظر التجوّل، فكان فرصة عظيمة لتنفيذ أنشطة أخرى “مخالفة للقانون”… حينذاك، أشار عليّ “كيدي النسائي” باتّباع تقنية جديدة تتمثّل في رشوة أبي. وهكذا، صرت أطهو له كلّ يوم لذيذ الأطباق وشهيّها بما يرضي جوع الصّائم فيه فيسمح لي بالخروج بعد انطلاق حظر التجوّل!
واصلت رحلة التمرّد وسبر أغوار الولاية التي لم يمرّ سوى شهر على قدومي إليها. كنت أقضي ليلة على شاطئ البحر وأخرى بين جيوب المدينة العتيقة وثناياها. وإذا ما شعرت أنني مراقبة من الأمن، كنت أتّصل بإحدى صديقاتي للمكوث في منزلها حتى يصبح الطريق آمنا. تلك الليالي “المسروقة” جعلتني خبيرة في الطرق المختصرة عبر المدينة العتيقة.
عادت فكرة التخييم تراودني. تردّدت بادئ الأمر غير أني تردّدي تبدّد سريعا إذ تذكّرت المثل الشعبي القائل “الله لا يقطعلنا عادة”. والتخييم كان عادتي… الحميدة جدّا!
ويسلاسة وسرعة كبيرتين، خطّطت ونفّذت. قدم أصدقائي من سوسة بعد أن نجحوا في استصدار تراخيص. وفي ذلك اليوم، قصدنا الشاطئ قبل حلول المغرب بقليل أين تناولنا الإفطار وليس في البحر سوانا. لا ولا حتّى عين البوليس.
كانت أول ليلة تخييم بعد أكثر من شهر في “الحجر” (أضعه بين معقّفين هكذا لأنكم جميعا صرتم تعلمون أنه كان نصف حجر بالنسبة لي). سهرنا ساعتها حتى الفجر.وبعد أن استمتعنا بتأمّل إطلالة خيوطه الأولى، لملمنا أغراضنا وصنّاراتنا وقدنا السيارة عائدين إلى المدينة. هناك، في الطريق، اعترضتنا سيّارة شرطة. توقّفت قليلا عند وصولها إلى مستوانا. أنزل الشرطي في مقعد القيادة النافذة قليلا… يا ويلي… جاءت اللحظة الحاسمة. “صباح الخير شباب”، قال البوليس قبل أن يشغّل السيارة مجدّدا وينطلق.
شعرت حينها بأمان كبير وبأنني أحبّ الشرطة!
بعد ذلك، بدأت الأيام تتوالى سريعا لتعود مظاهر الحياة العادية معها وإن تدريجيا وبحذر شديد. وأصبح الخروج بالنسبة لي “أمرا مفروغا منه”، أخرج صباحا في نزهة على الشاطئ، ثم أختلس قهوة، ثم أسبح أو أقود الدراجة مساء.
تباينت مواقف أصدقائي على فايسبوك من خرقي العلاني للحجر. هناك صديق كتب لي يقول “أنت تمثّلين النخبة و امرأة قانون فكيف تكونين أنت من يخالف القانون ويخرق حظر التجوّل؟ هل نسيت أن هناك من سيتأثر بك ويحاول تقليدك؟ كان عليك على الأقلّ الاحتفاظ بهذا لنفسك والامتناع عن نشره على مواقع التواصل الاجتماعي”.
غير أنني كنت أتلقّى أيضا رسائل إيجابية عديدة من أصدقاء آخرين يسألونني أين بالتحديد التقطت صور اليوم… ويخبرونني كم أنهم يغبطونني على خروجي في ظلّ الحجر الصحّي الشامل. أحدهم قال لي “أنت السبب الوحيد الذي يجعلني أفتح حسابي كي أتابع أخبارك وأشاهد آخر صورك فهي تخرجني من عزلتي وتمنحي الأمل بأن الحياة ستعود إلى سالف عهدها قريبا”.
أمّا أبي فكان الأكثر تفهّما. وكم أنا مدينة له بذلك. قال لي “أنا لن أمنعك من الخروج. فقط تذكّري يا ابنتي أن سلامتك أهمّ شيء عندي”.
ولأن كلمات أبي لم تفارقني يوما، كانت الكمامة وجال التعقيم رفيقيّ في كل لحظات التمرّد هذه على الإجراءات الحكومية “الصارمة”. صحيح أنني خرقت الحجر الصحي وحتى حظر التجوّل المسائيّ، لكنني لم أتهاون في حماية نفسي وعائلتي وأصدقائي. غاب العناق، والمصافحة وأبقينا على مسافة الأمان في كل لحظات “الخرق” التي تشاركناها.
“الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة”، كذلك هي كورونا، “كورينا” وابنتها “كورونتينا”.