ولدت سراب عام 1998 لأسرة سودانية ضعيفة الحال. لم تذهب إلى المدرسة. كانت البنت الوحيدة لعائلة تقطن كوخا تكاد تطيح به الرياح وتجرفه سيول الأمطار. مات والدها إثر معاناة مع المرض. لم تقو الأمّ على تحمّل غياب السند وقلّة ذات اليد وحدها فلم تلبث أن لحقت بزوجها. كانت سراب حينها في الرابعة عشر من عمرها. صارت الطفلة وحيدة في مواجهة مجتمع لن يرحمها.
قبل أن تعيش طفولتها، بدأت سراب حياتها كامرأة مسؤولة عن نفسها. طرقت أبوابا كثيرة. بحثت عن عمل يكفيها قوت يومها. وتنقّلت بين الأعمال الصغيرة، من معينة منزلية إلى منظّفة في المقاهي… وبين هذا وذاك، كان جسدها الصغير دائما مطمع النفوس المريضة. لم تشفع لها طفولتها. تكرّرت الاعتداءات الجنسية على البنت الصغيرة حتى وجدت نفسها وهي لا تتجاوز سنّ الخامسة عشر تحمل جنينا في أحشائها.
بل كانا جنينين. حملت سراب بتوأم من أحد مغتصبيها. وظلّت تعمل في المقهى طيلة حملها.
بعد الوضع، لم تتأخّر سراب كثيرا في العودة إلى العمل لتوفير القوت وحاجيات طفليها. لكنّها كانت على موعد مع اعتداء أكبر… كانت الأمّ حديثة الولادة في طريقها إلى البيت إثر عمل مسائي عندما اختطفها مجموعة من المنحرفين واقتادوها إلى منزل في منطقة نائية أين تداولوا على اغتصابها.
ليلتها، زرع أحد المغتصبين نطفة أخرى في رحمها. أتى الاعتداء الجماعي على ما تبقّى من نفسية سراب المتدهورة. صارت تفكّر في الانتحار لعلّها تضع حدّا لحياة من القسوة والعنف. فكّرت في إسقاط الجنين هذه المرّة… ولكنّ جسدها الصغير قد لا يتحمّل ذلك.
مكثت سراب طيلة أشهر تفكّر في سبيل للخلاص قبل أن تتّخذ قرارها. وكان أن تواصلت مع مهرّبي البشر في السودان قصد العبور إلى ليبيا.
حزمت أشياءها الصغيرة وركبت الطريق.
رحلة الموت في قلب الصحراء
هربت سراب من حياتها وسط مجتمع لم يرحم طفولتها وبراءتها إلى رحلة ليست أقلّ قسوة. كان أطفالها الثلاثة في حضنها فيما سيارة الدفع الرباعي تشقّ الصحراء أملا في رحلة تنتهي لاحقا بعبور المتوسّط.
أجسام نحيلة، بملامح سودانية أصيلة، لم تخف ذرات الرمال المتناثرة على وجوهها علامات القلق الممزوج بلذّة الحلم. ما كان كان، وقريبا سنحيا…
كانت سراب وأبناؤها يركبون في مؤخّرة السيارة ومعهم كان نحو عشرون رجلا. سراب هي المرأة الوحيدة في تلك الرحلة الطويلة. الخوف كان ساعتها سيد الموقف. تلك الأم الطفلة التي لم تعرف سوى العنف والاغتصاب. كم من الشجاعة لزمها حتى تقوى على تلك الرفقة؟
مضت السيارة بسرعة جنونية تطوي كثبان الرمال تحت أشعة شمس حارقة واهتزازات متواصلة يرتعب لها صغار سراب الثلاثة.
في وقت ما، ظهرت إحدى الدوريات العسكرية في الجزء الليبي من الصحراء وبدأت في تتبّع سيارة التهريب. لا تعرف سراب كم مضى من الوقت على تلك الملاحقة قبل أن ينجح السائق في الافلات من الدورية والاختفاء عن أعين أفرادها.
لكنها تذكر كيف توقّفت السيارة لاحقا وطلب منهم السائق تخفيف الحمولة. فكّر الركّاب ساعتها وقرّوا التضحية بالأطفال! سيرمون صغار سراب في الصحراء! تضرّعت الأمّ ل”رفاق ” الرحلة وتوسّلتهم أن يرأفوا بها وبصغارها. لكنّهم أبوا جميعا إلا أن يكون الأطفال قربان النجاة…
“أتركوني وإيّاهم في الصحراء”، قالت سراب مدفوعة بأمومة لم تخترها ولكنها صارت كلّ عالمها. ولم تمض ثواني على عبارتها تلك حتى كانت تجلس وسط الكثبان تراقب ابتعاد سيارة التهريب بمن فيها من بشر لم يرحموا طفولتها ولا صغارها في خضمّ معركتهم مع البقاء…
جلست هي وأطفالها على الرمال الحارقة تستمع إليهم يبكون ولا تملك أن تطعمهم أو تسقيهم. مرّت عشرة ساعات على تلك الحال، نفذ فيها الماء القليل الذي كانت تحمله وكاد ينفذ أملها في الخلاص.
وكما تنبثق المعجزات في مخيالنا، انبثقت من خلف الكثبان سيارة تهريب خالتها سراب بادئ الأمر سرابا… توقفت السيارة بعد أن لمح سائقها الأم وصغارها… جعلت سراب تتوسّل إليه وبقية الركاب أن يأخذوها وأطفالها معهم… وبعد مشاورات ومفاوضات طويلة، وافق السائق على إيصالها إلى مركز للاحتجاز.
لم تلبث سراب طويلا بعد وصولها إلى المركز، حيث بيعت إلى أحد المهرّبين. وكما اغتصبت مرارا وتكرارا في السابق، بيعت مرّة تلو الأخرى. في منطقة الكفرة، بقيت ثلاثة أسابيع كاملة في مكان يشبه مركز الاحتجاز الخاص بالمهاجرين أين كانت تنام على الأرض الرملية وتحصل على وجبة طعام واحدة في اليوم…
رحلة البيع… ما تزال الحياة بعيدة
تقاذفتها الأقدار وبطش الإنسان. لم تعد تذكر كلّ مكان أقتيدت إليه. كانت تعامل معاملة البضاعة. وهل تسأل البضاعة “إلى أين؟”
لا صوت يعلو غير صوت المزايدين: “100.. 300… 450… 800 دولار”. ليست سلعا تلك التي تباع وتشترى، بل بشرا.
في منطقة القطرون وحدها، بيعت سراب ثلاثة مرّات. ومرّة في سبها… وبين هذا وذاك كان حلمها بالوصول إلى الضفة الأخرى يسلّي عنها همّها ويمنحها طاقة على التشبّث بالحياة.
مركز الاحتجاز بسبها. جدران تشهد على عذابات من مرّوا من هنا. ونوافذ قليلة لا تفي بدخول هواء يكفي مئات الأشخاص المحرومين من ضوء الشمس. كان الجلاّدون يلفّون ورق النايلون حول أجساد المهاجرين غير النظاميين ثم يتلذّذون بإشعال الورق ومشاهدة النيران تحرق أجسادهم الهزيلة. كانوا يحلقون رؤوس المحتجزين ويتفنّون في ضربهم وتعذيبهم ثمّ يصوّرونهم في تلك الأوضاع ويرسلون مقاطع الفيديو إلى ذويهم طلبا للمال.
ولأن القدر كان يخبّئ في جعبته المزيد من الأحداث لها، نجحت سراب في الهروب من هول السجن هي وأطفالها ومهاجران سودانيان آخران. تواصلت الأمّ الطفلة مع شخص يدعى “أيوب الليبي” الذي هرّبها إلى مدينة زوارة في الغرب الليبي القريبة من مركز لتهريب البشر.
من هناك، بدأت رحلة الموت الثالثة. لا، لم تكن قد وصلت إلى البحر بعد. موعدها مع الموت كان في “الكاراج”. في مركز تهريب البشر، طلب أفراد عصابة الاتّجار بالبشر من سراب أن تدفع لهم المال، لكنها لم تكن تملك شيئا. ظلّوا يطلبون المال عدّة مرّات ويسألون عن ذويها، لكن سراب كانت تجيبهم في كلّ مرّة بأنها “مقطوعة من شجرة”. قالوا لها في نهاية الأمر “ستدفعين لنا من جسدك”..
أمروها بأن تنزع ثيابها المهترئة… رفضت، تضرّعت وتوسّلت إليهم بأن يرحموها… لكنّهم رفعوا السلاح في وجه أحد التوأمين… ووسط تضرّعاتها التي لم تجد آذانا صاغية ولا قلوبا رحيمة، انطلقت إحدى الرصاصات لتضرب جمجمة الطفل… بعينين مذهولتين لا تصدّقان ما ترانه، شاهدت سراب جمجمة طفلها تنفجر وتتبعثر في زوايا المكان…
في تلك اللحظة، خرّت آخر قوى الأمّ الثكلى لتوّها…. أظلمت الدنيا في عينيها… شاهدت برعب في مخيّلتها طفليها الآخرين يقتلان أمامها فاستلسمت لطلب جلاّديها… وأسقطت ثيابها المهترئة عن جسدها المغتصب مرّات ومرّات… يومها، تداول تسعة “وحوش” على اغتصاب سراب حتى تعرّضت لنزيف حادّ وأغمي عليها…
عندما فتحت عينيها أخيرا، كان زوج من العيون الصغيرة التي تطالعها في حيرة مشوبة بالخوف الشديد… أمّا جثّة الطفل فكانت قد اختفت.
رحلة الموت في الطريق إلى الحياة
لم تعدّ سراب الأيام. كانت تهيم على وجهها قابضة على طفليها كمن يقبض على الأمل. حتى جاء اليوم الذي وضعها فيه مهرّب آخر في مركب صغير مع ثمانية أشخاص آخرين. أجساد صغيرة أرهقها الجوع والقهر، تتطلّع عبر البحر في صمت كنائسيّ… لم تقو سراب على الكلام… ضاع صوتها. طفلاها الصغيران، ركنا هما الآخران إلى صمت بحجم مأساة ولدا منها وعليها نشآ…
كان الدعاء يتردّد في الصدر ولكنه لا يجد طريقه إلى الحلق واللسان.. وكان الدموع تتهيّأ خلف المقلتين، ولكنّ هيبة الموقف تمنعها من الارتسام عليهما…
فيما كان المركب يشقّ عباب المتوسّط، كانت سراب تستعيد محطات حياتها كما لو أنّها كانت بالأمس… فقدان الأهل، الاغتصاب المتكرّر، الهروب عبر الصحراء، تجربة الاحتجاز، مقتل طفلتها…
عمر صغير فتكت به أوجاع إذا عرضت على الجبال لأبَيْنَ أن يحملنها وأشفقن منها… وحملتها سراب.
مازالت لا تصدّق كيف نجح المركب الهشّ يومها في الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسّط… ولا تذكر كيف مرّت الأشهر وحصلت على اللجوء في ألمانيا… أصبحت سراب وأطفالها لاجئين محميين بمقتضى القانون الدولي.
وإن كان الحزن والاكتئاب يلازمانها إلى الآن، فإنها على الأقلّ سعيدة بالعيش في مكان يحفظ كرامتها ولا تضطرّ فيه إلى “الدفع من جسدها” أو رؤية طفلها يقتل أمام عينيها.
مازالت سراب إلى الآن تعاني اضطراب ما بعد الأزمة. في مكان ما في إفريقيا، تعيش سراب أخرى. تحلم أيضا بعبور الصحراء والبحر نحو الحياة.
تنويه
سراب هو الاسم المستعار الذي اختارته صاحبة القصة لنفسها.
التقى الصحفيُّ ّسراب في الكفرة بليبيا أين حصل على الجزء الأكبر من قصّتها، وواصل تتبّع مسارها عبر إحدى المنظمات المتدخّلة في مجال اللجوء والهجرة.
الرسومات المستخدمة في القصّة للفنانة التشكيلية الليبية ندى قليوان.