“إننا نطارد السّكينة في كل مكان. نحاول استحضارها عن طريق التأمّل والصّمت وترشّف كوب قهوة. لكنها في كل مرّة تتمنّع… نفس السكينة المتمنّعة ترتمي طواعية في أحضاننا في قرقنة.” وقع سيف تحت سحر الجزيرة من أول نظرة. شيء ما خفيّ شدّه إليها…شعور غريب بالسكينة غمره بمجرّد أن وطئت قدمه أرض الجزيرة… سكينة جئنا قرقنة آملين أن نحظى بشيء منها نحن أيضا.
ترقد قرقنة في سلام في أحضان البحر الأبيض المتوسّط… جزر صغيرة هادئة شرقي البلاد التونسية تكوّن أرخبيلا على مسافة 32،7 كم من سواحل مدينة صفاقس. هنا، لا وسيلة نقل تربط قرقنة باليابسة غير الباخرة… أو “البابور” كما يحلو للأهالي تسميته… تركبه ساعة من الزمن لتحلّ في الجزيرة أو ترحل عنها… إلى حين.
على متن “البابور” انفصلنا عن العالم. جلسنا بهدوء نترقب ظهور الجزيرة التي تراءت لنا تدريجيا من وراء البحر كأنها عروس تفترش المياه.
“يلّي ماشي للجزيرة…”
لا تزال الطبيعة بكرًا في مواقع كثيرة من قرقنة. ولا تزال الحياة فيها على الفطرة. هادئة ومسالمة معظم العام. حتّى يطلّ الصيف فتكتظّ الجزيرة بالمصطافين من سائر أنحاء البلاد وخارجها. من كلّ صوب ودرب يأتون فرادى وجماعات طامعين في شيء من بحر قرقنة وشمسها ورمل شواطئها…
فرّق قرار منع التنقّل بين المدن الذي أعلن يوم 8 جويلية الفارط، وما يزال ساريا إلى حدود نشر هذا التقرير، بين كثير من محبّي قرقنة وبينها. اعتادت فاطمة الوحيشي أصيلة ولاية المنستير، لسنوات تمضية شطر من عطلتها الصيفية في الجزيرة. تقول متحسّرة :”صيفي ناقص حاجة وناقص حاجة كبيرة… منع التنقل بين المدن حرّم عليا قرقنة.” (صيفي ينقصه شيء…ينقصه شيء كبير… منع التنقل بين المدن حرمني من قرقنة.)
جعل هذا المنع عدد المسافرين إلى قرقنة يتراجع بشكل واضح مقارنة بـصائفة 2020، إلا أنه حوّلها أيضا إلى قبلة للكثير من أهالي صفاقس الذين كانت لهم وجهات أخرى للاصطياف في السابق…
في مكان منزو مطلّ على البحر داخل أحد المنتزهات، كان يجلس سيف المسعودي. بدا في تأمّله الصامت كما لو أنّه يأخذ من زرقة البحر عمق عينيه الخضراوين. هو شابّ تونسي مقيم بالخارج اعتاد أن يمضي عطلته في أحد شواطئ سوسة أو نابل. لكنّ منع التنقل بين المدن جعله “حبيس صفاقس”، خاصّة في الفترة الأولى التي كان فيها تطبيق القرار ما جعله يفكّر أن يزور قرقنة للمرة الأولى. و”يا لها من زيارة” يحدّثنا بإعجاب… مصافحة أولى جعلت زياراته تتوالى لتصبح قرقنة ملاذا للشاب الذي لا يبحث إلا عن مكان يداعب سكينته.
ليست السكينة الطاغية على المكان وحدها ما يوقع المصطافين في شباك قرقنة. فلأهالي الجزيرة أيضا سحرهم. يميل “القراقنة” فطريا إلى الفرح. إذ لا تكاد تجتمع عائلة قرقنية أو مجموعة من الأصدقاء إلاّ وتكون “الزكرة” و”الطبل” عروسي الجلسة.
وفيما يشبه “الواجب المقدّس”، يجب أن تصدح كلّ الحناجر بالأغنية المحلّية الشهيرة:
“يلّي ماشي للجزيرة…سلّم على الأهالي.
من ملّيتة للعطايا… خبّرهم عن حالي”
في مكان غير بعيد عن “العطايا” التي تذكرها الأغنية تقع “القراطن”.هي أبعد نقطة تقريبا في الجزيرة… في السابق لم تكن القراطن وجهة يقصدها الكثير من المصطافين حتى افتتح بها منتزه صار مقصد الناس… كان علينا قطع كيلومترات طويلة والسير في طريق مقفرة وغير معبّدة جعلتنا نظنّ أننا أخطأنا المكان. حتى طالعتنا مجموعة من السيارات المرصوفة أمام سور لا يمكن أن يكون إلا سور المنتزه… تنفّسنا الصّعداء… “لقد وصلنا “!
ما إن بلغنا المكان حتى استقبلنا رجل فارع القامة مفتول العضلات مرحّبا بنا. ظننّا في البداية أنه نادل يعمل هناك. لكنه كان عيّادي السويسي صاحب المنتزه. رجل مليء بالطاقة يوحي شكله بأنه في الثلاثينات من عمره في حين أنه تجاوز الثلاثين بعقدين اثنين…
كان المنتزه شاسعا ومطلاّ على البحر… وكان المصطافون يملؤونه حركة وحياة. بعضهم يلعب ألعابا شاطئية، فيما يستسلم البعض الآخر لمشهد معانقة الشمس للبحر… وكان آخرون غارقين في الضحك والأحاديث اليومية التي لا يخلو منها أي تجمّع.
يحبّ عيادي عمله الذي يقضي فيه كلّ ساعات يومه. ويحبّ أيضا الصيف موسم عمله السنوي والذي يجعله يلتقي حرفاءه الأوفياء. لكنّه لا يجد مفرّا من الاعتراف أن “الضغط يولّي كبير وكل شي تشعل فيه النار… حتى الخبز يتقطع في الصيف…حتى أحنا من 18 ألف ساكن نوليو 300 ألف نسمة “، هكذا وصف عيادي السويسي الاكتظاظ الحاصل بالجزيرة.
احتفالات في البيوت. شواطئ تعجّ بالمستجمّين. وفي الأثناء، يزيد اكتظاظ الجزيرة صيفا من معاناة الأهالي اليومية. أمّا الكهرباء فيزداد معدّل انقطاعها، وأمّا الموادّ الأولية فسرعان ما تنفد، ويغلو ثمنها حدّ الشّطط.
ورغم هذه المشاكل اليومية تواصل قرقنة احتضان الجميع فهي تعرف بأنها “بلاد الكرم” وقبلة المصطافين لكنها أصبحت أيضا خلال السنوات الأخيرة قبلة “الحرّاقة”.
أصبحت الجزيرة قبلة المهاجرين غير النظاميين، إذ تم تصنيفها خلال السنوات الأخيرة من بين أهم نقاط انطلاق المهاجرين غير النظاميين نحو “الحلم” الأوروبي… يقول أحمد*، والذي لم يتجاوز الثامنة عشر بعد لكن في رصيده حتى الآن محاولتا “حرقة” انطلاقا من قرقنة، إنه يحلم بمغادرة تونس والعيش في أوروبا منذ كان عمره 10 سنوات… ويشرح “تجاوزت الحدود مرتين وتم الإمساك بي لكني مازلت أنوي الهجرة غير النظامية.”
أحمد ليس الوحيد الذي ينام محتضنا أحلام “الحرقة” مئات غيره تتلقّفهم أمواج البحر وأيادي منظّمي الهجرات الغير النظامية.
وجد عدد من أبناء الجزيرة في تنظيم الهجرة غير النظامية مورد رزق. شكري*، أحدهم. هو منظم سابق للـ”حرقة”… بدا عليه التوجّس في بداية لقائنا. جلس قبالتنا على الطاولة في المقهى الشعبي، مكتوف اليدين. وأخذ يجول ببصره يمنة ويسرة… لكن سرعان ما شعر بالارتياح مع تبادلنا أطراف الحديث… ففتح يديه وانشرح صدره ليسرد لنا تجربته… “عملت في تنظيم الهجرات غير النظامية لعدد من السنوات، ليست مهنة يسيرة إنها تتطلب الحذر والصبر والتيقظ وتجعلك تعيش في حالة من الذعر المتواصلة… صحيح أنني دخلت المجال صدفة وأدرّ عليّ في فترة من الفترات بعض المرابيح لكنني انقطعت الآن لأنّها مهنة مرهقة للأعصاب والضمير أيضا…”
وأضاف “تخيّل أن تكون مسؤولا عن حياة أرواح بشرية أو موتها !…أنا كنت أعمل بضمير وأحرص على سلامة الحريف ودوري كان يتمثّل أساسا في توفير الطعام والسكن للمهاجرين ومتابعة الأحوال الجوية وطبعا التثبت من سلامة المركب وقدرته على الإبحار وتعيين “رايس” جدير بالمهمة. “
ليست “الحرقة” عملية بسيطة. فهي تمرّ بعدّة مراحل ويتشارك في إنجاحها أطراف مختلفة. حين ينتهي دور المنظّم يأتي دور الرايس الذي يقود المركب إلى السواحل الإيطالية.
لم نواجه مشكلة في التواصل مع الرايس سالم. كان متعاونا وتحدّث بأريحية بل بحماس عن تجربته الأخيرة في الحرقة. “تحصّلت على مبلغ قدره 6 آلاف دينار مقابل قيادة القارب نحو إيطاليا، المبلغ أقلّ مما يتلقاه “الرايس” عادة والأمر يعود إلى أنني قدت هذه المرة فلوكة (قارب إبحار) وهي صغيرة وبالتالي عدد المهاجرين كان قليلا..”
بالنسبة للرايس سالم فقد أصبحت الرقابة شديدة جدا في الفترة الأخيرة و”العمليات المحبطة أكثر بكثير من التي تعبر بسلام إلى الضفة الأخرى.”
بعد أن التقينا طرفين فاعلين في “الحرقة” قرّرنا التوجه إلى السلطات الأمنية بعد مراسلتها رسميا. توجّهنا لمنطقة الحرس البحري بسيدي يوسف طالبين الحصول على عدد عمليات الحرقة المحبطة خلال الفترة الأخيرة… وبعد انتظار طويل، التقينا أخيرا برئيس المنطقة الذي استقبلنا بحفاوة في مكتبه… لكنّه في المقابل امتنع عن مدّنا بأي معطيات لأنّها وفق تعبيره “تتعلّق بالسرّ المهني” ويتوجّب أولا مراسلة الإدارة العامة للحرس الوطني لطلب الحصول عليها.
لم تنجح محاولتنا في الاتّصال بالشخص المسؤول في الإدارة العامّة للحرس الوطني. لكنّ المعلومات التي “تتعلّق بالسرّ المهني” عن عمليات الهجرة غير النظامية المحبطة كانت منشورة في كلّ مكان بالفعل. نقلا عن بلاغات وزارة الداخلية.
بحر قرقنة لم يعد يضحك؟!
يرى أسامة* وهو شاب عاطل عن العمل أنّ الحديث عن الحرقة في قرقنة مبالغ فيه، لأن “عدد الحرقات المنظمة لا تقارن بعددها في السنوات السابقة”، لكن “لغاية في نفس يعقوب” يسلّط الضوء اليوم على الهجرات غير النظامية في قرقنة بغرض التعتيم على الملفات الحارقة التي تشغل المواطن القرقني. إذن يعتقد أن رغبة الشباب في “الحرقة” أو امتهان بعضهم الآخر تنظيمها ليس إلا نتيجة مباشرة للانتهاك الذي تعرضت له الجزيرة وما تزال عبر تلويث بحرها. “تلويث بحرنا هو ضرب مباشر لحقّنا في الشغل والكرامة”، يقول الشاب القرقني.
يمثل البحر الداعم الأساسي لاقتصاد الجزيرة ومصدر الرزق الوحيد لمعظم سكان الأرخبيل الذين يتوارثون مهنة الصيد البحري أبا عن جدّ. لكنّه تعرّض إلى تسريبات نفطية متكرّرة خلال سنتي 2016 و2017 أدّت إلى نفوق الأسماك وتضرّر معدّات الصيد.
ضربنا موعدا مع الصيّاد صالح سهل في “شطّ المشاني”. مكان أشبه بالميناء يركن فيه الصيّادون سفنهم. وجدنا صالح بانتظارنا رفقة ابنه الصغير. رجل أربعيني قويّ البنية لفحت الشمس بشرته فوهبتها لونا برونزيا.
يتحسّر صالح على ضياع الثروة السمكية قائلا: “مازلنا نعاني من مخلّفات التسريبات إلى حدود اللحظة… في الماضي كنا نصطاد الخير والبركة والآن ذهب الخير والبركة مع قدوم النفط والمنقّبين عنه.”
لم يسكت صالح عن الأضرار التي لحقت به وبقوت أبنائه سنة 2018، فتقدّم بعريضة رفقة زملائه لمقاضاة شركة البحث عن النفط واستغلاله بقرقنة. قامت المحكمة بتعيين خبير فلاحي لتعيين الأضرار التي لحقت بمصائد الشرفية (طريقة صيد تقليدية اشتهرت بها جزر قرقنة) و”مع أن الشركة نفت نفيا قطعيا التسبّب في أي تلوّث مهما كان إلا أن المعاينة الميدانية أثبتت وجوده”، وفق قوله.
بينت المعاينة أيضا أن الشرفية أصبح لونها أسودا جرّاء مادة النفط مما يستوجب تقديم تعويضات للمتضرّرين. حيث قدّرت قيمة المضرّة اللاحقة بالصياد بنحو 32.294.000 دينار. لكن لم يتم إلى الآن البت في القضية. ولم يتمتع صالح بأي تعويض عن خسائره، كما يؤكّد.
“تسريبات النفط لم تتوقف. هي فقط أقل حجما من التسريبات الكبيرة التي وقعت في عامي 2011 و2016 .لكنها متواصلة، والبحّارة يجدون بشكل يومي تقريبا بقع نفط في شباكهم.” تحدّثنا مبروكة خذير، صحفية أصيلة الجزيرة.
وكانت مبروكة وشقيقتها فتحية قد أنتجتا وأخرجتا شريطا وثائقيا بعنوان “شباك النفط”. تتبّع الشريط مظاهر التلوث البيئي في جزيرة قرقنة. وسلّط الضوء على تسرّب النفط إلى مياه البحر جرّاء سوء استغلال الشركات النفطية الأجنبية المتشاركة مع الشركة التونسية للأنشطة البترولية وعدم قيام الدولة بدورها في المراقبة وفق ما جاء في العمل.
لكنّ تسريبات النفط ليست آخر مشاكل الجزيرة.
في طريق العودة استوقفتنا سيدة ستينية تدعى “حبيبة” أرادت أن نوصلها إلى منزلها غير البعيد عن وجهتنا. كانت امرأة بشوشة وتلقائية. قدّمت لنا بيضا كانت تحمله في يدها هدية. ثم قالت وهي تشير بنفس اليد إلى مصبّ للنفايات: “ماكم صحفيين صوّرولنا هذا!” (بما أنكم صحفيون صوّروا هذا!) وأضافت: “حيث ما مررنا نشتمّ رائحة الفضلات التي تكاد تنفذ إلى بيوتنا. هذا المشهد لا يليق بقرقنة الجميلة”.
للأسف لم يكن مكبّ النفايات التي أشارت إليه حبيبة الوحيد الذي اعترضنا. فعلى امتداد الطريق كانت القمامة تتكدّس منغصّة على العين استمتاعها بمشهد النخل الباسق في سماء الجزيرة الصافية.
“يا قرقنة يا بلاد الخير…” تقول إحدى الأغاني التراثية القرقنية… هذه الجزيرة التي تضرّر بحرها وسكّانها من التلوث والتي يقول عدد من أبنائها إنها منسية وخارج حسابات الدولة التنموية. ومع ذلك، يتمسّك السكّان بمحبة أرضهم وبحرهم ويأملون أن يكون الغد أكثر إنصافا.
أمّا نحن فحسبنا من قرقنة يوم نقضيه بين ربوعها… وكثير من القصص.
تنويه
تمّ تغيير أسماء بعض الأشخاص بطلب منهم.
تساند منصّة "إنسان" أهالي قرقنة في مطالبتهم السلطات بتأمين حقّهم في البيئة الصحّية والملائمة.
تعتبر "إنسان" أيضا أنّ حرية التنقّل حق إنساني لا مساومة فيه. وأنه على السلطات التونسية أن تبذل الجهود والموارد لتأمين حياة أفضل للتونسيين/ات داخل تونس والدّفاع عن حقّهم في التنقّل خارجها بشكل يضمن كرامتهم الإنسانية.