11 جوان 2013، تاريخ لا ينسى في حياة عائلة حسن، رجل في منتصف عقده الرابع يغلب البياض على شعره. فاجعة موت زوجته التي توفيت في حادث شاحنة تقلّ النساء العاملات في القطاع الفلاحي، أفقدته طعم الدنيا. لم تكن الضحية الأولى أو الأخيرة بل كانت إحدى الحلقات التي لم تنته إلى اليوم، وبقي نزيف الضحايا يدمي قلوب من حولهنّ.
يقال إن لكلّ امرئ من اسمه نصيب، ولعلّ منسيّة، المرأة الريفية في منطقة وفّرت لها الجغرافيا كل سبل الحياة وظلمها التاريخ، كانت الأكثر حظاّ في اسمها… وربما لو خيرّت لما اختارته. لكنها لم تعد هنا لتخبرنا بذلك.
كان يوما صيفيا حارّا، اجتمعت فيه حوالي 32 سيدة تحملهنّ شاحنة في رحلة الشقاء المتجدّد، دون توفّر أدنى ظروف السلامة، لا يحميهن سوى بعض الدعاء لحظة خروجهنّ. كانت منسيّة بلباس يغطي كامل جسدها تحمي ما بقي من جلد أخفت لونه أشعة الشمس، التي تصحبها منذ لحظة الصعود إلى الشاحنة حتى العودة إلى المنزل.
جلست في زاوية داخل الشاحنة وأمامها سلّة تحمل فيها نصيبا من الغذاء والماء الذي بالكاد يسدّ رمقها، وتتقاسمه عادة مع باقي النسوة اللاتي يشتركن لحظات الحزن والأسى ولحظة الفرحة التي يسترقنها خلال العمل.
مضت الشاحنة وبدأت الرحلة. نساء التصقت أجسادهن وتداخلت المظلات التي يضعنها فوق رؤوسهن. يتبادلن التحية ورد السلام. كان كل شيء عاديا مألوفا وهنّ في الطريق نحو حقل الطماطم. حتى بلغن الطريق الرابطة بين ولاية جندوبة ومنطقة بوسالم على مستوى السجن المدني ببلاريجيا، حيث فقد السائق السيطرة على الشاحنة، شعرت النسوة بالخوف وبدأن بالتأرجح داخلها قبل أن تتداعى الشاحنة وتنقلب وسط صيحات متتالية وطلب للرحمة والنجدة.
سبقت السلال صاحباتها، حين تناثر الطعام على الأرض وسقطت منسيّة مغشيا عليها دون حركة، التفّ غطاء رأسها بوجهها وسالت دماؤها.
لم يدرك أحد هول المصيبة التي حلّت بالنسوة، حتى بدأ أنينهن الجماعي، المصحوب بآهات الألم والبكاء من الفاجعة، وامتزجت الدماء بقطرات العرق واختلطت الأحذية والملابس، وتداخلت الأجسام كأنها واحدة. وما إن تفرّقت حتى ظهر وجه الموت قاتما حاملا معه مأساة جديدة.
ماتت منسية.
لم يكن موتها أرحم من الحياة بل أشدّ وطأة وأكثر قسوة. هي لحظة فارقة تحطّم فيها عمود البيت وأُخذ عمره. لم يع أبناؤها هول المصيبة حين بلغهم أجلها. أصغرهم رضيعة تنتظر والدتها لتستقبلها بخطواتها الصغيرة. أما زوجها ففي العاصمة يعمل في حظيرة بناء، وصل إلى منزله بعد أن حملها أشقاؤه إلى المنزل، لتفترش أرضيته قبل الدفن.
قال حسن إنّ الحياة لم تمنحه لحظة وداع ولم تمكنه من رؤية وجه زوجته في لحظاتها الأخيرة، بعد فترة لم يلتقيا فيها، حين انشغل عنها بالعمل وحرصت هي على مساعدته في حقول جني محاصيل الطماطم والفلفل.
مرّت سبع سنوات على وفاتها، لم يتمكّن زوج منسيّة من استرجاع حقّها ولم يحصل على أي دعم مادي أو معنوي، أو مساندة من السلطة المحلية في المنطقة.
تراكمت عليه المسؤوليات بتقاسم دور الأم والأب، يغسل الثياب ويطهو الطعام وينظف لأبنائه ويصرف على تعليمهم رغم أجره المتواضع جدا، الذي يكسبه من عمله مع تاجر جملة للمواد الغذائية.
يأخذه الحنين والألم، يتنهد ويقول “ليتني مت وبقيت هي مع أبنائنا”.
كانت لون البيت وطعمه…
داخل بيت صغير في منطقة الفجوج، التي تبعد 3 كلم عن مدينة فرنانة بولاية جندوبة، الحياة منعدمة، أطفال لا يملكون منها سوى الضعف والانكسار وقلة الحيلة والشعور بالظلم الذي لم يرفعه الزمن ولم تمحه الأيام.
عددهم خمسة، ينامون ويأكلون ويشربون داخل غرفة واحدة تحتوي سريرا كبيرا وأفرشة بالية قديمة يقتسمونها فيما بينهم، وأب ينام في غرفة صغيرة منفصلة قبالة الباب، بجانبه البرّاد وأمامه الغاز ومواعين موزّعة في الأرض لا مكان يحتويها.
بيت، حيطانه متداعية للسقوط يغلب عليه لون الاسمنت الرمادي الذي ظهرت ملامحه حين اختفى بياض الدهن ومرّت سنوات عليه دون أن يكسوه أي طلاء، لا بلاط فيه، يسكنه الغبار ورائحة الفقد.
كانت منسيّة لون البيت وطعمه، والحياة التي تزينه، امرأة مفعمة بالقوة رغم الظروف، تحمل الهمّ الأسري وتكافح الدنيا لإسعاد كل فرد فيه، تساعد زوجها الذي يعمل في حظيرة للبناء في العاصمة، لتؤمن الغذاء لأبنائها من العمل في القطاع الفلاحي.
لم تتجاوز ال38 عاما حين أسلمت روحها، سنين أمضتها في المواءمة بين تربيتهم والسعي لتعليمهم والعمل على توفير عيش كريم لهم.
“هل اشتقتم لوالدتكم؟” سؤال لم تجب عنه أصغر بناتها “أسماء”، طأطأت رأسها وعيناها موجهتان إلى القاع، بدت خجولة في محاولة إخفاء قدميها الحافيتين تحت سرير متهاو، مرفوع بأغطية وأقمشة في جانبيه، ثمّ رفعت رأسها ولم تتكلم، ليقطع والدها الحوار وينبه إلى أنها لا تعرفها تركتها طفلة لا تدرك هول المصيبة.
أكبر الأبناء، هو الآخر لا يذكر والدته جيدا، لكن استحضار صورتها في مخيلته كان شعورا جميلا رغم الألم وفريدا مقارنة بأشقائه الذين لا يملكون من ذكراها سوى صورة وحيدة لها، بحثوا عنها ولم يجدوها، قالت ابنتها متحسرة “كل شيء ضاع حتى صورتها”. يقولون إنهم حرموا منها باكرا، وأن قلوبهم انفطرت لفقدها وانكسرت بلقب اليتم الذي عززته الحاجة والخصاصة.
“اتصلت بي عائلات ميسورة لأعطيهم أبنائي ورفضت”، يقول والدهم متحسرا عن عجزه في حمايتهم من حرارة الصيف وبرد الشتاء، وتلبيته لحاجاتهم وتعويض حنان الأم الذي فقدوه، لكنه متشبث بهم مستشرفا مستقبلا قد لا يسامح نفسه فيه إذا تخلّى عن أبنائه وفرّقهم عن بعضهم.
كانت “أسماء” الصغيرة تمسك بيدي والدها وتحضنه حين كان يبتلع تأوهاته بين ثنايا عبارات التبني والفراق، وإذ به يمسح على شعرها بيديه ويغمرها مطمئنا إياها ألا سبيل لإبعادهم عنه.
طلب بعض السماسرة من حسن أن يرسل ابنته الكبرى للعمل كمعينة منزلية في العاصمة لكنه رفض، بسبب الظروف التي تحيط بالعاملات المنزليات من إهانة لكرامتهن واستعباد لهن وفق قوله، وأكد أنه يسعى لتوفير ظروف ملائمة لابنتيه، للدراسة والحصول على شهادات تضمن لهما مستقبلا جيدا.
سالمة تعيش؟
رغم المعاناة والخوف والموت، لم تتوقف نساء جندوبة عن التنقل في ظروف خطيرة قد تؤدي بحياتهنّ في أي لحظة ويصبحن “منسيّات” جدد.
تقول نصيب علوشي، رئيسة جمعية ريحانة للمرأة في جندوبة، إحدى المنظمات المشاركة في حملة “سالمة تعيش” لمناصرة تفعيل قانون عدد 51 لسنة 2019 لنقل العاملين والعاملات في القطاع الفلاحي، إنّ أسباب تحمل النساء لهذا العبء يعود إلى سيطرة الوسطاء والسماسرة على القطاع الفلاحي، الذين يجبرون النسوة على هذا الخيار الصعب لتوفير عمل لهن عند الوصول إلى الأراضي والحقول، وإذا هنّ اتّبعن طريقة ثانية للتنقل إلى العمل يحرمونها منه وتعود خائبة، لأن الوسطاء والسماسرة يريدون أن يكونوا هم فقط الحلقة الرابطة بين الفلاّح والعاملات.
وأوضحت علوشي أنّ شركة النقل بجندوبة أحدثت حافلة لنقل العاملات في القطاع الفلاحي عام 2018، لكن لم تستعمل إلا مرات قليلة، لأن النساء العاملات في الفلاحة لا يعتمدنها خوفا من الوسطاء، مما اضطر الشركة لاستعادتها.
يسيطر الوسطاء بشكل كبير على حركة تنقل العاملات في القطاع الفلاحي ويمنعون النساء من التعامل مع الجمعيات و الإدلاء بتصريح للصحافة مقابل الحفاظ على عملهن.
وقد امتنعت بعض النساء العاملات في القطاع الفلاحي بمنطقة فرنانة عن التصريح ل”إنسان” خوفا من سماسرة الطريق الذّين يرفضون التعامل مع الصحافة.
تعمل جمعية ريحانة على مشروع FAIRE ، بالتعاون مع منظمات وجمعيات وطنية الذي يقوم في مرحلته الأولى على تحسيس العاملات في القطاع الفلاحي بمخاطر التنقل في شاحنات غير مرخصة ودعم مشاريع تنموية للنساء في المرحلة الثانية.
بعض النساء وفق نصيب العلوشي أبدين احترازا على تطبيق القانون وتوفير ضمان اجتماعي لهن، خاصة اللاتي يتمتعن ببطاقة علاج مجاني، ويحصلن على دعم مالي من الدولة في شكل مساعدات، اللاتي “يخيّرن إرهاب الطريق على الضمان الاجتماعي، خوفا من أن تحرمن من الامتيازات (بطاقة العلاج المجاني والدعم المالي الحكومي)”.
ورصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، 40 حالة وفاة و530 إصابة في صفوف النساء العاملات بالقطاع الفلاحي، نتيجة ظروف النقل التي وصفها بالكارثية وغير الآمنة، وهو ما يؤكد وفق رئيسة جمعية ريحانة غياب الإرادة لتفعيل القانون عدد 51 لإنقاذ النساء من الموت المحتم.
[wpdatachart id=1]ورغم انتشار فيروس كورونا المستجد، لم يمنع الخوف النسوة من العمل، وفق رحمة الجوادي رئيسة جمعية المرأة الريفية في جندوبة، التي أكدت أنهن لم يتمتعن بأي إجراءات استثنائية للحفاظ على سلامتهن. وقالت إن عملهن استمرّ خلال فترة الحجر الصحي في البلاد.
وهو ما أكدته نصيب العلوشي، التي قالت إنّ العمل في القطاع الفلاحي استمرّ على حاله ولم تتوفر للنسوة أي حماية تذكر بل ازداد عملهن دون توقف.
رغم الجراح يبقى الأمل موجودا لمواجهة الخطر الذي يحوم حول حياة العاملات في القطاع الفلاحي، لإيقاف النزيف الذي يحيط بهن، وحماية حقوقهن حتى لا تهدر وتصبح منسية.
أمل تترجمه خطوات متردّدة تحاول الخروج ومقاومة أشعة الشمس الممتدة داخل البيت لتتّحد عائلة منسية في صورة جماعية مثقلة بالجراح. أمّا الأعين التي أثرت فيها ندوب الماضي ولم تسعفها صيحات الحاضر، فقد جعلت تبحث عن أمل في عدسة الكاميرا لتغيير زوايا الألم. ربّما.
عندما حان الوقت لمغادرة بيت يكسوه التضامن مغطّيا ما شوّهه العوز والفقدان، رافقنا الأب إلى الشارع الرئيسي في انتظار سيارة تقلّنا من منطقة الفجوج إلى فرنانة المدينة. من المفارقة أنها كانت هي الأخرى وسيلة نقل غير قانونية.