في مدينة قبلّي التونسية، آبار الغاز التي تديرها شركة بيرينكو (Perenco) الفرنسية البريطانية بالاشتراك مع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP) ،هي موضوع كل الأوهام، وفقًا للمشغلين، اللذين اتهمهما المجتمع المدني بالتورّط في استخراج الهيدروكربونات بشكل غير قانوني لعدة سنوات.

لكن في بداية سنة 2022، وضع تحقيق تعاوني حدّا لخلاف دام قرابة 10 سنوات حول الطبيعة الحقيقية لأنشطة الشركة الفرنسية البريطانية في المنطقة. منذ سنة 2008، تعمل الشركة على استخراج الغازات غير التقليدية عن طريق التكسير الهيدروليكي، بالقرب من مناطق بيئية مهمّة. بين القيود الصحية والتعتيم البيئي وعسكرة مواقع الشركة، مازال الأمل في التغيير بعيد المنال.

آبار غاز، حوض لتخزين المياه، حقلا باقل وطرفة، تونس. الكسندر بروتيل، إنسان.

“هنا؟ يستخرجون الغاز الصخري!”

“هنا؟ يستخرجون الغاز الصخري! إنه خطير جدا على البيئة!” جملة متداولة في قرى الفوّار وغريب وحتى صبرية الواقعة على طول الطريق الذي يفصل مدينة دوز عن أحد مواقع بيرينكو (Perenco). ومع ذلك، فمن غير المتوقع أن يقولها أحد الجنود التونسيين الذين من المفترض أن يحرسوا هذه المناطق.

يقع حقل الفرانيڨ على ضفة بحيرة شط الجريد المالحة، في منتصف سطح كبير ومستوٍ من المياه المالحة التي تسكنها طيور النحام الوردي والتي تنتصب على بعد خطوات قليلة من الصحراء التونسية. إنه أكثر مواقع النفط والغاز حمايةً من قبل الجيش التونسي في المنطقة. لسبب وجيه وهو أنه منذ سنة 2012 كان مسرحًا للعديد من الإضرابات والتحركات والاعتصامات.

حقل الفرانيڨ ، تونس. ألكسندر بروتيل، إنسان

هذه البوابات وأبراج المراقبة ونقاط التفتيش الأخرى التي أقيمت في وسط هذه المساحة المهجورة والهادئة، تجعلها تبعث على الانشراح أكثر من كونها مخصصة للوقاية، إذ يبدو عدم جدواها واضحًا في هذا الفضاء الفارغ. بضع خطوات كافية للانتقال من الجزء الخاص من الطريق الذي صممه بيرينكو (Perenco) إلى المجال العام.

ربما تكون هذه هي الميزة الوحيدة لرؤية حقل الغاز يمر مباشرة عبر أحد الثروات البيئية المرشحة ضمن التراث العالمي لليونسكو: يمكنك بسلاسة مراقبة أحدهما من خلال الآخر، على الأقل نظريا.

بينما كنا نلتقط صورنا في الفضاء العام، خارج محيط موقع الفرانيڨ، بعد ساعة قطعت طريقنا سيارة jeep عسكرية.

حماية عسكرية ومراقبة صناعية

نزل من السيارة جنود بواسل وطلبوا هوياتنا بطريقة خشنة وذلك تحت إشراف موظف في شركة بيرينكو كان يصوّرنا باستخدام هاتف ذكي. وسجّل هذا الأخير أسماءنا وألقابنا، التي أملاها عليه الجنود بشكل طبيعي، ثم طلب فحص هواتفنا و كاميراتنا. أحد الجنود تصفح صورنا الشخصية، ولكن دون جدوى. فشل في العثور على بطاقة ذاكرة الكاميرا الخاصة بنا.

وعلى إثر الاتصال بها بعد هذه الواقعة، نددت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بهذه الممارسات التي لا تحترم حرية الصحافة ولا تتفق مع مهمة الجيش في هذه المواقع.

أحواض تجميع المياه بحقل الفرانيڨ. ألكسندر بروتيل، إنسان

يغادر الموظف المكان، ويرافقنا الجنود على الطريق الرئيسي، بعد مكالمة مع قياداتهم. كان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذا الحدّ، لكن فجأة انطلقت ألسنة الجنود ونحن ننتظر سيارتنا. من الواضح أنهم ليسوا معتادين على استقبال الزوار وقد تم أخيرًا حل هذا الإشكال، فهم يحاولون أن يكونوا أكثر لطفًا.

سبب وجودهم هنا؟ “منع التخريب والإضراب وتوقف العمل”. وما طبيعة العمليات في موقع الفرانيڨ؟ “هنا؟ يستخرج الغاز الصخري. إنه خطير جدا على البيئة! ” تصريح لو بقي موظف شركة بيرينكو، الذي غادر منذ بعض الوقت، لكان من المحتمل أن ينفيه. لكن هذا يسلّط الضوء على الهدف الآخر من عسكرة هذه المواقع وهو تعزيز الغموض حول الأنشطة الحقيقية للشركة على الأرض.

ستوفر هذه الزيارة صورًا واضحة لأحد أوضح المؤشرات على استخراج الموارد غير التقليدية مثل الغاز الصخري: وجود أحواض تخزين المياه.

مواقع التكسير الهيدروليكي

ارتفاع المياه في حوض التخزين، الفرانيڨ. الكسندر بروتيل، إنسان

تهدف تقنية التكسير الهيدروليكي إلى حقن المياه المركزة بعدد كبير من المواد الكيميائية (أكثر من مائة مادة مضافة سامة لشركة Schlumberger، الناشطة في تونس)، من أجل تكسير الصخور الغنية بالهيدروكربونات المتواجدة عميقا تحت الأرض. وما أن يتم استعمالها، تتصاعد المياه بشكل عام إلى السطح إذ يتم تخزينها في أحواض تخزين في الهواء الطلق.

في سنتي 2010 و 2015، ولا سيما على مستوى بئر EFR-5، تم الكشف عنه كبئر صخري تجريبي وكان وجود هذا الأخير في موقع الفرانيڨ هو الذي نبه إلى إمكانية عمليات التكسير الهيدروليكي التي نفذتها بيرينكو.  ومنذ ذلك الحين ، علمنا أن جميع الآبار الموجودة في هذا الحقل تنتج مخزونا من الغاز الذي يصنف بغير التقليدي لأنه “مندمج”.

بالنسبة لهذا النوع من الخزانات، تظل عملية الاستخراج شبيهة إلى حد كبير بطريقة استخراج الغاز الصخري، مما يتطلب أيضًا تكسيرًا هيدروليكيًا لتحرير الهيدروكربونات المعنية وهي ممارسة غير قانونية في تونس.

توجد العديد من الواحات المستخدمة لغراسة النخيل في كامل أنحاء منطقة الحقل وبحيرة شط الجريد، ضمن دائرة نصف قطرها 15 كيلومترًا من مساحة الحقل، لحوالي 80 نقطة غراسة محددة باستخدام نفس المياه الجوفية التي مرّت عبرها شركة بيرينكو أثناء التنقيب.

اللافتات على الطريق المؤدي إلى حديقة جبيل الوطنية. الكسندر بروتيل، إنسان

في نفس المنطقة، تتوزع أيضا 50 نقطة مياه سطحية، وبالتالي تمثل نقطة حيوية للحيوانات والنباتات المحلية، وكذلك المراعي والمحاصيل ذات الصلة.

في سنة 2015، كانت المنطقة أيضًا في وضع الاستغلال المفرط للمياه الجوفية بمعدل أكثر من 200٪، وفقًا للسلطات المحلية، مما يسلط الضوء على المشكلة المحتملة لاستخدام هذه الموارد في التكسير الهيدروليكي. إذ يمكن لعملية واحدة أن تتطلب بالفعل استغلال آلاف الأمتار المكعبة من المياه.

ويقدم حقل باقل-طرفة الواقع شرق دوز، والذي ينتمي أيضًا إلى بيرينكو، السيناريو نفسه. إذ يشق الموقع المحمية الوطنية بجبيل والتي وفقًا للمرصد الرقمي للمناطق المحمية التابع لمركز الأبحاث المشتركة تعدّ موطنا طبيعيا لما يقارب مائة نوع من الكائنات الحية المحمية، ومن ضمنها ثلاثة كائنات مدرجة في القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة التابع للأمم المتحدة (IUCN). فمثلا يمكن للمرء أن يصادف طائر الحبارى، وهو طائر مهدد بالانقراض، بين آبار التنقيب المختلفة الموجودة بموقع بيرينكو.

قطاع مربح في منطقة محرومة

واحات النخيل بمنطقة دوز. الكسندر بروتيل، إنسان

تُعرف مدينة دوز باسم “بوّابة الصحراء”، وهي نقطة جذب للسياحة المحلية. رحلات استكشافية بواسطة مركبات تجوب جميع المسالك عبر الكثبان الرملية البيضاء، التخييم تحت سماء الصحراء المرصعة بالنجوم وركوب الجمل… تطور اقتصادي حقيقي على مر السنين، لهذه المدينة التي تقع في موقع استراتيجي بين متنزه جبيل وبحيرة شط الجريد.

ولكن منذ انتشار جائحة كوفيد العالمية، تحول هذا التطور الاقتصادي إلى غرف فندقية شاغرة وانخفاض في الحركة السياحية. ضربة قاسية لمنطقة مثل قبلي التي تصنف ضمن أضعف المؤشرات التنموية في البلاد من حيث النشاط الاقتصادي والاستثمار الأجنبي، وذلك بحسب المرصد التونسي للاقتصاد.

على الرغم من أنّ قبلي هي المنتج الأول للتمور في تونس، والثانية من حيث الصادرات الوطنية من المنتجات الزراعية بعد زيت الزيتون، فإن المحاصيل وحدها لم تعد كافية. “الناس تعساء. بقيت واحات النخيل وغراسة التمور. لكن هذا لا يكفي للحفاظ على المنطقة بأسرها”، هذا ما قاله صاحب مطعم يخلو محلّه الزبائن على غير العادة.

نكاد ننسى تقريبًا أن هذه المنطقة هي موطن لأحد أكثر الأنشطة المربحة في البلاد، وهو استخراج الغاز والنفط. وفي وقت تعدّدت فيه الإجراءات الصحية والحجر المرتبط بفيروس كورونا، يبدو أن المشغلين الأجانب في القطاع نجحوا في المحافظة على وجودهم.

“بولندية، هولندية، بريطانية، فرنسية…” لسنا بصدد قراءة قائمة بجنسيات السيّاح القلائل الذين تمكنوا من القيام بجولة في الكثبان الرملية على الجمال في الأشهر الأخيرة، ولكنها قائمة الشركات متعددة الجنسيات التي تدير آبار الغاز في المنطقة: سيرينوس (Serinus) مازارين (Mazarine)، وبالطبع بيرينكو (Perenco) .

مع توقف السياحة، ألا تشارك هذه الشركات في الحياة الاقتصادية للمنطقة؟ يكفي أن تطرح هذا السؤال على أحد شخص في دوز لتفتكّ منه ابتسامة…

بيرينكو: قضية إجتماعية

بالنسبة إلى فاخر العجمني، ناشط محلي، فإن هذا السؤال هو جوهر الصّراع الاجتماعي المستمرّ” منذ سنوات في قبلي. وهو الذي دفعه إلى إثارة موجة حقيقية من الاحتجاج الشعبي على آبار الغاز المحيطة. فاخر معطّل عن العمل، في الثلاثينيات من عمره، وجد نفسه مدفوعًا إلى رأس الحركات الاحتجاجية الكبرى في المنطقة في سنة 2017.

بمبادرة منه، تضاعفت الاعتصامات والمظاهرات والغلق في قبلي، وتم تنسيق تحركات مماثلة في أماكن أخرى من البلاد بالتوازي في مواقع تطاوين والكامور وقابس. يهتم فاخر بحجب موقع بيرينكو المثير للجدل: الفرانيڨ.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها شركات النفط والغاز الأجنبية الموجودة في تونس احتجاجات محلية. وقد استمر هذا منذ عام 2012 على الأقل، وأصبح أكثر تداولا من خلال فتح باب الخوض في الشأن العامّ على أعقاب الثورة التونسية. لكن تنسيق هذه الحركات المختلفة، خلال سنة 2017، كان غير مسبوق آنذاك.

الجمعية العمومية لعائلات دوز خلال الحركات الاجتماعية 2017. فاخر العجمني

“تعاقبت الوفود الوزارية على الاجتماع معنا”، يصرّح فاخر. كانت المطالب هي نفسها السابقة: أن تشارك بيرينكو في الاقتصاد المحلّي وتطوير البنية التحتية، فضلاً عن تشغيل الشباب. لكن هذه المرّة، تمّ الاستماع إلينا. قمنا بصياغة 114 مقترحا تمّت المصادقة عليها من قبل الدولة وشركات المنطقة ”.

كان من بين هذه المقترحات المصادق عليها: ضمان عدم ملاحقة المتظاهرين من قبل الشركات. لكن بعد يومين من توقيع الاتفاق، تمّت دعوة العديد منهم إلى المحاكمة، ومن ضمنهم فاخر.

وفقًا للعجمني، فقد تعرّض إلى مضايقات قضائية حقيقية من قبل بيرينكو منذ عام 2017 وحتى الآن، واضطرّ إلى المثول أمام المحكمة بانتظام بتهم مختلفة تتعلق بـ “التخريب”. نسبت الأضرار التي لحقت بالمعدّات في الموقع آنذاك إلى “كاسري الإضراب” الذين استخدمتهم شركة بيرينكو.

وحتى اليوم وبعد مرور قرابة خمس سنوات على توقيع الاتّفاق، فقد تمّ تنفيذ أقلّ من نصف مقترحاته. بحسب الناشط دائما. في حين أن الاستثمار المحلي للشركة ومعدل التوظيف سيمثلان مشكلة على الدوام، وفقًا للإحالة المقدمة في عام 2018 من قبل منظمة محامون بلا حدود (ASF) ونقاط الاتصال الوطنية الفرنسية (PCN).

خلال السنة الماضية، اندلعت اشتباكات بين الشرطة وسكان المنطقة. لم تكن الاشتباكات في مواقع التنقيب، إذ لم يعد من الممكن الوصول إليها، بل كانت مباشرة في مدينة دوز.

ألم تؤدّي عسكرة المواقع، بعيدا عن ضمان السلم الاجتماعي، إلّا إلى ترحيل الاحتجاجات إلى شوارع مدينة ملغومة بالفعل بنقص الفرص الاقتصادية؟

 
 

تنويه

أنجز هذا الريبورتاج بدعم من برنامج "programme Money Trails". سبق للكاتب أن نشر تحقيقا عن الموضوع نفسه في جانفي 2022 في مجلّة جون أفريك.

Authors