منذ شهر جويلية 2019 يقبع في أدراج الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ملفّ تبليغ عن شبهات فساد مالي وإداري بخصوص تصرّف المجلس التونسي للاجئين في مشروع “حماية اللاجئين” المموّل من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتونس. وحسب ما ورد بهذا الملف، فقد ذهبت ميزانية المشروع إلى جيوب أجراء المجلس ومسؤوليه، أقاربا وأصدقاء. وفيما لم ينل اللاجؤون سوى النّزر القليل من الميزانية المرصودة لـ”حمايتهم”، نالهم الكثير من الإهمال وسوء المعاملة والترهيب. إن كنت تتساءل: أين هيئة مكافحة الفساد ومفوضية شؤون اللاجئين من هذا كلّه؟ فتأكّد أنك لست وحدك.

مشروع حماية اللاجئين…. فرصة عائلية!

بدأت الحكاية بإبرام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتونس والمجلس التونسي للاجئين بتاريخ 26 ديسمبر 2018 اتّفاقية شراكة ينفّذ المجلس بمقتضاها مشروعا لحماية اللاجئين في تونس يحمل اسم “ضمان توفير بيئة حماية مواتية وتعزيز تمكين المجتمع”، على أن يتمّ إنجاز المشروع بين 1 جانفي و31 ديسمبر 2019.

وتكفّلت مفوضية شؤون اللاجئين بمقتضى الاتفاقية بتوفير ميزانية تنفيذ المشروع بنسبة 100 % أي دون أي مساهمة ذاتية من الشريك المنفّذ. والمجلس التونسي للاجئين، وإن يوحي إسمه لأوّل وهلة بأنّه هيكل عمومي، هو في حقيقة الأمر جمعية أسّسها عام 2016 مصطفى الجمّالي الّذي شغل منصب مدير إدارة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب ووسط آسيا التابعة لمفوضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين في وقت سابق.

ووفق الاتفاقية فقد سلّمت المفوضية المجلس التونسي للاجئين مبلغ  922.860،000 دينار تونسي سنة 2019، أي قرابة المليون دينار، على أربعة دفعات لقاء تنفيذ مشروع حماية اللاجئين. لكنّ الحسابات الخاصّة بالمشروع، إلى حدود جوان 2019، تكشف أنّ 829.221،000 دينارا من المبلغ المذكور ذهبت لسداد رواتب الموظفين العاملين بالمجلس التونسي للاجئين.

ويكشف الملف المقدّم إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وجود العديد من الروابط الأسرية بين الموظفين وغياب أطر شفافة ونزيهة في عمليات الانتداب داخل المجلس التونسي للاجئين في إطار مشروع حماية اللاجئين المذكور.

إذ عيّن مصطفى الجمّالي، مدير المشروع، (وهو في الوقت ذاته رئيس المجلس) إبن أخته منسّقا في الجنوب “على الرغم من افتقاره إلى الخبرة والتجربة الميدانيتين”. كما عيّن الكاتب العامّ للجمعية عبد الرزّاق الكريمي بخطّة مكلّف بالعلاقات في المشروع، ليقوم هذا الأخير بدوره بتعيين خطيبته آنذاك، والتي أصبحت زوجته، في خطّة أخصّائية نفسية وابن أخته في خطّة عون استقبال.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل امتدّت سلسلة التعيينات القائمة على القرابة والصداقة إلى أحد أصدقاء عبد الرزاق الكريمي الذي عيّنه هذا الأخير بخطّة منسّق للمشروع في الشمال، وإلى ابنة أخ الصديق المذكور وزوجها الّذين تمّ تعيينهما على التّوالي في خطّتي مسؤولة حماية ومنسّق أنشطة.

نجد في الموقع الرسمي للمجلس التونسي للاجئين التقديم التالي للموارد البشرية العاملة فيه : “يعتمد المجلس التونسي للاجئين على موظّفين مدرّبين تدريبا جيدا وذوي خبرة في مجال العمل الإنساني الذي يستهدف اللاجئين. لدينا، حاليا، عدد كبير من الموظفين المؤهلين (أكثر من 70 موظفا) موزّعين على مكاتبنا المختلفة والمتخصّصة في مختلف مجالات التدخل لصالح اللاجئين وطالبي اللجوء ، على غرار  الحماية (مسؤول الحماية، مساعدو الحماية المجتمعية ، المساعدون الميدانيون ، الأطباء النفسيون والممرضات) وكذلك المجال المتعلّق بالعمليات.”

في المقابل يكشف الملفّ المودع لدى هيئة مكافحة الفساد أنّ المدير التنفيذي السابق لمشروع حماية اللاجئين كان قد طلب القيام بتقييم فترة التربّص لجميع من تمّ انتدابهم من قبله غير أنّ طلبه قوبل بالتسويف والرفض الضمني. كما أنه كاتب إدارة الجمعية داعيا إلى “اتّباع إجراءات انتداب شفافة وعلنية كما هو معمول به لدى سائر الجمعيات والمنظمات المحترمة”، إلاّ أن مطلبه لم يحظ بردّ كتابي بل “قابله تهديد لفظي من المدعوّ عبد الرزّاق الكريمي طالبا منّه الانكباب على عمله وعدم التدخّل في هذه المسائل”.

تضارب المصالح… في صالح العائلة دائما

تمتدّ اتفاقية الشراكة الموقّعة بتاريخ 26 ديسمبر 2018 بين كلّ من مازن أبو شنب الممثل السابق للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتونس ومصطفى الجمّالي رئيس المجلس التونسي للاجئين ومدير المشروع المذكور، بين 1  جانفي 2019 و31 ديسمبر 2019، وتهدف الاتّفاقية، نظريًا على الأقل، إلى “ضمان توفير بيئة حماية مواتية وتعزيز تمكين المجتمع”.

وتنصّ الاتفاقية في مادّتيها 11.3 و13.2 على ضرورة أن يتّخذ الشريك المنفّذ أي المجلس التونسي للاجئين كلّ الاحتياطات اللازمة لتجنّب كلّ أوجه تضارب المصالح ومن بينها الأسباب العائلية والحياة العاطفية، وعلى أنّ يتحلىّ كلا الطرفين بـ”صفر تسامح” تجاه الفساد والممارسات الاحتيالية أو أي شكل من أشكال سوء التصرّف على غرار تضارب المصالح.

مقتطفان من نصّ اتفاقية مفوضية اللاجئين والمجلس التونسي للاجئين

يجمع عضوان من المجلس التونسي للاجئين بين صفتي عضو المكتب التنفيذي وصفة الأجير في مشروع حماية اللاجئين، الأمر الذي يخالف مرسوم الجمعيات عدد 88 لسنة 2011 في فصوله 4، 18، وكذلك الاتفاقية المبرمة بين الجمعية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين وفق نصّ البلاغ وسائر القواعد الأساسية للشفافية والنزاهة بالأمم المتّحدة.

هذان العضوان هما مصطفى الجمّالي، رئيس الجمعية ومدير المشروع (أجير) في الآن ذاته، وعبد الرزّاق الكريمي الكاتب العامّ للجمعية والمكلّف بالعلاقات صلب المشروع (أجير أيضا).

وقد كان مصطفى الجمّالي رئيس المجلس التونسي للاجئين يشغل في السابق منصب مدير إدارة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب ووسط آسيا التابعة لمفوضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، قبل أن يتقاعد منها حوالي العام 2016، أي في نفس العام الّذي أسّس فيه المجلس التونسي للاجئين. ووفق مصدر رفض كشف هوّيته، يعدّ بعث جمعية المجلس التونسي للاجئين وتمكينها من هذا التمويل السخي بمثابة “مكافأة نهاية الخدمة” للجمّالي.

ورغم كل الخروقات المشار إليها آنفا فقد تمّ تدعيم مشروع حماية اللاجئين المسند للمجلس وتكليفه بمشاريع أخرى على غرار الإشراف على مراكز إيواء اللاجئين التي كانت تحت إشراف الهلال الأحمر. تدعيم رافقه بالطبع ترفيع مفوضية شؤون اللاجئين في التمويلات المرصودة للمجلس التونسي للاجئين لم يتسنّ لنا تحديد قيمتها ومعرفة أوجه صرفها بعد.

ولا نجد في موقع المجلس التونسي للاجئين الذي تأسّس في 2016 أيّ أثر لتقاريره الأدبية والمالية للسنوات الماضية. كما لا تتضمّن خانة المشاريع المنجزة سوى مشروع واحد لسنة 2018 بعنوان “تعبئة الدعم الذاتي المجتمعي وتعزيز الوصول إلى الخدمات”، مموّل من مفوضية شؤون اللاجئين، دون تفاصيل كثيرة عن أنشطته أو ميزانيته والعاملين فيه.

أمّا خانة الأنشطة على الموقع فهي فارغة تماما، حيث يكتفي المجلس بنشر مستجدّات أنشطته على صفحة الفايسبوك.

سوء معاملة للاجئين وخدمات مجانية… بمقابل

الشبهات في عمل المجلس التونسي للاجئين تجاوزت تضارب المصالح وانتداب أفراد العائلة والأصحاب إلى شبهة فساد لدى المكلّفين مباشرة بالتعاطي مع اللاجئين، حيث يشير الملفّ المودع لدى هيئة مكافحة الفساد إلى “وجود شبهات حول تحصّل العاملين بالمشروع على مبالغ مالية من اللاجئين مقابل إسداء الخدمات المجّانية بطبعها أو التسريع فيها دون الحاجة إلى الانتظار كبقية اللاجئين”.

وأمام طلب المبلّغ فتح تحقيق جدّي في الغرض، تمّ الاكتفاء بتعليق ورقة بمدخل الجمعية تنصّ على مجانية الخدمات دون البحث في المسألة تماما.

توجد في الحديقة الأمامية لمقرّ المجلس التونسي للاجئين قاعة من الألمنيوم  مخصّصة لاستقبال طالبي اللجوء خلال فترة انتظار تقديم الخدمات الإدارية. لكنّ “الإدارة تجبرهم على الانتظار في الخارج خشية أن يعتصموا داخله بمقرّ المجلس.”

وفي هذا السياق، يتضمّن الملف المقدّم للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، شهادات عن سوء معاملة واعتداء بالعنف وطرد للاجئين وطالبي اللجوء وإجبارهم على الانتظار في الخارج مدّة ساعات الأمر الذي أدّى إلى تعكّر صحّة عدد منهم ممّا استوجب نقل أحدهم إلى المستشفى بعد إصابته بنوبة قلبية نتيجة الإعياء، وذلك في شهر جوان 2019.

وقد أنكر العاملون على حماية اللاجئين في المجلس التونسي للاجئين معرفتهم بمرض الضحية رغم إعلامه لهم بذلك، وفق المصدر ذاته.

صورة طالب اللجوء بعد أن أغمي عليه في مقرّ المجلس التونسي للاجئين

تحصّلنا على شهادات لطالبي لجوء فضّلوا إبقاء هوياتهم مجهولة، حدّثونا عن نقص في النفاذ إلى المعلومة والمرافقة القانونية، وعن صعوبة تقديم مطلب لجوء خاصة بالنسبة لجنسيات معيّنة. حيث يضطرّ هؤلاء للانتظار عدة أشهر قبل أن يتمكّنوا من تقديم مطلب الحماية، ثمّ ينتظرون أشهرا طويلة أخرى على أمل الحصول على صفة لاجئ.

يقول محمد (اسم مستعار)، طالب لجوء، إنّ مطالباته المتكرّرة بالنظر في ملفّه ومنحه صفة لاجئ، وتنديده بظروفه المعيشية السيئة وتقصير المجلس والمفوضية في توفير أسباب العيش الكريم له ولسائر طالبي اللجوء أمثاله، قد جعلت الطرفين المتدخلين في ملفّ اللجوء، المجلس التونسي للاجئين ومفوضية شؤون اللاجئين بتونس، يقومان بإقصائه والتمييز سلبيا ضدّه، حيث لم يتلقّ أي مساعدة مالية منذ أشهر، وظلّ لفترة طويلة مقيما في ظروف سيئة، كما لم يتمّ التعامل بجدية مع طلبه مؤخرا بزيارة طبيب إثر وعكة صحية ألمّت به.

وكان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قد أصدر بيانا في ديسمبر 2019 جاء فيه أنّ كلّ من “يتجرّأ منهم (اللاجئين وطالبي اللجوء) على المطالبة بحقوقه يتعرض للتهميش أو للمنع من دخول المجلس التونسي للاجئين أو أحيانا للتهديد بالتحويل الى مركز الأمن إذا ما استمرّوا في المطالبة بحقوقهم.” معربا في نصّ البلاغ عن “قلقه إثر تعبير أغلب مقدمي الشهادات حول ممارسات مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين والمجلس التونسي للاجئين عن الخوف من تعرّضهم لأعمال انتقامية إثر تصريحاتهم. إذ يتعرّض عدد منهم بالفعل لمضايقات نفسية وتهديدات شخصية لردعهم عن تقديم شهاداتهم للصحفيين ومنظمات المجتمع المدني.”

“نحن لا نتدخّل في التفاصيل…”

أحد عشر شهرا مرّت منذ إيداع المبلّغ لملفّ التجاوزات المسجّلة بالمجلس التونسي للاجئين لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في جويلية 2019. وقد اتّصل مرارا وتكرارا بالهيئة منذ أوت 2019 للسؤال عن مآل ملفّه. إلاّ أنّ الرّد كان دائما “ما زلنا في طور التحقيق”، “عاود الاتصال بنا لاحقا”. الأمر الذي يصفه صاحب الشأن ب”الصمت المريب”. أمّا طلبه توفير حماية فلم يتلقّ المبلّغ ردّا بخصوصه أيضا، وهو الذي تعرّض إلى مضايقات وتهديدات وفق قوله.

ولم يتسنّ لنا الحصول على تفسير رسمي من الهيئة لأسباب تأخر الفصل في الملف قبل نشر التحقيق.

كما حاولنا عدّة مرّات الاتصال بالمجلس التونسي للاجئين عبر الهاتف القارّ والأرقام المهنية لرئيسه وكاتبه العامّ دون مجيب، فيما لم يتمّ الرّد على رسالتنا الإلكترونية رغم تأكيدنا على وجود أجل للنشر.

من جهته، وصف نوفل التونسي المنسّق الميداني لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتونس المجلس التونسي للاجئين بـ”الشريك الاستراتيجي” وبأنه “قام بعمل ممتاز”، قائلا في معرض ردّه على سؤالنا حول تضارب المصالح داخل المجلس والمشروع المموّل من المفوضية: “نحن لا نتدخّل في التفاصيل. ما يهمّنا هو أن العمل يجري كما يجب… ما يهمّنا هو هل تمّ تنفيذ المشروع أم لا”.

أمّا سؤالنا عن الميزانية المرصودة لـ”مشروع حماية اللاجئين” وذهاب النّزر القليل منها فقط إلى الأنشطة مقابل تخصيص معظمها لأجور الموظّفين، فقد أجاب عليه المنسّق الميداني لدى مفوضية اللاجئين بالقول: “عندما يكون هناك موظّفون يعملون فهذا يدخل بطريقة غير مباشرة في تأثير النشاط”.

ردّ لا ينهي معاناة كثير من طالبي اللجوء في تونس الذين لا يرون أثرا لمشاريع بميزانيات ضخمة رُصِدت باسم حمايتهم.

تنويه